الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة العار

سعدون محسن ضمد

2007 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


للحقيقة وجوه ثلاثة، وكل من هذه الوجوه يمثلها بمستوى معين؛ الوجه الأول هو وجهها الذي هي عليه، أي ما هي عليه بمعزل عن الإدراك البشري. الوجه الثاني لها، هو ذلك الذي أعرفه أنا وأعتقد به، فمن خلال عقلي وبالاستناد للأرث التاريخي والاجتماعي الذي أرجع إليه، أُكوِّن عن الحقيقة صورة تناسبني. الوجه الثالث لها، هو ذلك الذي يدركه الآخر (أي كل من هو غيري) ويؤمن به. والذي يُسْقط على الحقيقة ـ هو أيضاً ـ أرثه التاريخي والاجتماعي.
الحقيقة في وجهها الأول تمثل نفسها، إذ تتساوى مع الحق أو الصدق المطلق، في وجهها هذا لا يضاف لها من خارجها شيء. المشكلة الوحيدة بهذا الوجه أنه غير قابل للإدراك. فمهما كان إدراك الحقيقة بمستواها هذا بريئاً، فإنها ستتحول بعد إدراكها من وجهها الأول إلى الثاني وتصبح حقيقة مُدْرَكة لا مطلقة.
أما بالنسبة لوجهها الثاني فهو وجه يمثل الحقيقة من وجهة نظري، وكما أريد لها أن تكون. وهي بوجهها الثالث تكون مرسومة وفق مقاسات الآخر، وحاجاته وميوله، وكلما تعدد هذا الآخر تعددت وجوه الحقيقة.. المهم في هذا الموضوع هو التأكيد، بأن ليس للحقيقة وجه محدّد يمكن امتلاكه. فهي تتعدد بتعدد المدركين، أما وجهها الحقيقي فالإنسان غير معني به لأنه غير قابل للإدراك.
إن عملية معرفة الأشياء، ومهما كانت بريئة هي في نهاية المطاف نوع من إسقاط أفكار الذات العارفة على الموضوع المعروف. هناك، بالضرورة، زيادة ذاتية خلال عملية الإدراك، تضاف على الحقيقة. ومن هنا نستطيع أن نُفْرِغ موضوع التمييز الفكري من محتواه، ذلك أنه في حقيقته فعّالية اجتماعية أساسها اليقين بالوصول للحقيقة، وهذا اليقين غير حقيقي بالمرة؛ إذ ليس بالإمكان إدراك الحقيقة بصورة تامة.
نعم، هذا المستوى من اليقين (الوهمي) ضروري للجماهير، فالدين لا يمكن أن يؤدي وظيفته الجماهيرية من دون أن يستند إليه. لكن عندما يمسك مثل هذا اليقين بخناق المثقف، الديني أو غير الديني، ما يجعله ممراً سهلاً لأفكار التمييز والإقصاء، فهذا الأمر بحد ذاته مهزلة، نعم مهزلة كبيرة أن يؤمن إنسان بأن الحقيقة حكر عليه، وأنه فارسها الأوحد، والمهزلة الأكبر أن يهدد بإيمانه هذا إيمانات الآخرين. هذه الفعاليات الخيالية التي تناسب العصور الإنسانية القديمة، يجب أن تنتهي من حياتنا، فالإيمان حاجة للروح، ولا يمكن ولا نريده أن يكون حاجة للعقل. العقل لا يؤمن، بل يؤسس قواعد بحث دائمة التحرك.
لقد مررنا في العراق بزمن يغرق بالذبح، الذبح الذي شرعن له الإيمان المطلق، وما دامت بوادر الخلاص من ذلك الزمن قد لاحت، فالأولى بنا أن نقف ضد الثقافة التي فتحت أبوابنا له، هذه الثقافة يجب أن تنتهي تماماً، لئلا يرجع الغول علينا من جديد. الإيمان الذي يؤدي إلى تصنيف الناس باعتبارهم كفرة أو مُغَرراً بهم أو جهلة، يجب أن يتحول بعرفنا وثقافتنا لعار يستحق كل تبعات العار وضرائبه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول مناظرة في فرنسا بين الكتل الانتخابية الرئيسية في خضم حمل


.. وساطة إماراتية تنجح بتبادل 180 أسيرا بين موسكو وكييف




.. استطلاع: ارتفاع نسبة تأييد بايدن إلى 37% | #أميركا_اليوم


.. ترامب يطرح خطة سلام لأوكرانيا في حال فوزه بالانتخابات | #أمي




.. -أنت ترتكب إبادة-.. داعمون لغزة يطوقون مقر إقامة وزير الدفاع