الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هنا موسكو : كيف نحلم بصوفيا ؟

محمد نبيل

2007 / 10 / 4
الادب والفن


لم تتجاوز عقدها الثالث، تقطن بحي بناه الروس بعد سقوط الجدار بالعاصمة موسكو.ترفض أن يناديها أصدقائها بصوفيا . وبالرغم من أن اسمها مسجل في لوائح السلطات الروسية ،فان هذه الصامتة لا تظهر من عيونها سوى الغرابة. شيء عجيب أن نلتقي بامرأة تكره اسمها حتى النخاع، وتحب أسماء الغير، و تعشق عيونهم المدمرة. تحب رجالا طوقهم الواقع وأغرقهم في عالم من اليأس. وجوههم شاحبة و أيديهم مكَبَّلة ، ينظرون إلى ضوء النجوم و حركة الأشباح . صوفيا تحب بجنون الرائحة التي تنبعث من سيارات موسكو العتيقة ،و ضوضاء تلك الساحة المحيطة بمتحف ألكسندر بوشكين .صوفيا تحب أشياء كثيرة .قد تتخلى عن كل شيء لكنها لن تتنازل عن أقدس مقدساتها : عشق الحياة اللامتناهي.

حاولت أن ألحق بصوفيا عندما انسحبت في هدوء. طاردتني الكثير من الأحلام . توقفت . تركتها تسير لوحدها، أنا المكتوي بنار الفراق و الشوق و كل أنواع الحماقات. كنت أنظر إليها وكأنها قريبة مني. كانت تدخل مسرعة إلى مغارة توجد على الجانب الأيسر من جبل موسكو ،أطلق عليها اسم مغارة الحرية . تدخل مسرعة ثم تخرج ثانية . تكرر هذه العملية مرات عديدة. تصرخ بصوت لا يسمعه أحد. كلهم كانوا هناك، داخل المغارة ،رجال ملتحون ونساء زاهدات،كلهم منشغلون بتعداد نجوم السماء،يحاولون الإمساك بثوب صوفيا الناعم و يديها اللتان لم تلطخا بدم الغير، لكن أشباح الغابة كانت تعيق وصول هؤلاء إلى الهدف. يا للخسارة عندما يتبدد الحلم ويسود الوهم !

غيرت مكاني أكثر من مرة، و حاولت أن أخترق دروب الساحة الحمراء. زرت قبر لينين. بحثت عن معبر أو قناة توصلني إلى صوفيا. لا أريد أن أترك ساحات موسكو الشاسعة، وصمت دروبها الذي يسبق عاصفة غير معروفة. لكنني أحلم برؤية صوفيا ولا أريد التخلي عنها. وجع في بطني يقطع شراييني. أحسست بأنني دخلت مرحلة انفصام جديدة. وبين الحلم بصوفيا و الرغبة في البقاء على هذه الأرض المغتربة ، تمزقت و بدأت أهلوس من شدة التعب . كانت و كأنها قادمة ،بجانبي تحاول الإمساك بما تبقى من شعيرات رأسي . تريد أن تأخذ لي صورة تزين بها غرفتها المظلمة. خاطبتها بصوت صاخب و أصم من الحجر الذي بنيت به مغارة الحرية :
ـ عليك بالعودة. أهتمي بصمتك و بنفسك أكثر، فالنفس قاتلة.
ردت علي صوفيا دون أن تحرك شفتيها العريضتين:
ـ آه، أعتقد في شيء أجمل و أهم من النفس !
ـ غريب...!
ـ إنه العشق الأبدي . عندما نصبح أسرى لرؤية الحبيب ،يتحقق الخلود.
ـ لكن لذة الحب و طعم اللقاء ولو كان قصيرا لا تقدر بأي ثمن !

أحيانا لا نحس بالحياة و لا حتى بلحظات الموت البطيء، لكن بالقرب من صوفيا يصبح للزمن وتيرة مغايرة، تنبض بالعشق الجنوني لشيء اسمه الشغف. لا أريد أن أستفيق من سبات هذه اللحظات التي تدخل فيها صوفيا إلى غرفتي ،بعدما تغادر الجبل والمغارة و نظرات المكبلين اليائسة . نعم، عندما تودع صوفيا مغارة الحرية ،أتحرر من شكي و أدخل مملكة اليقين . كم تصبح الأوهام مطمئنة وموحية بالراحة . صوفيا لا تتخلى عن رجل مثلي ،يكره البحر و ظلمات المغارات والجبال الوعرة. إنها تحب مرافقتي بالرغم من كوني لست من عشاق تلك المغامرات المحفوفة بالمخاطر.

عندما تثيرني رائحة صوفيا و فستانها الأزرق، أتذكر الراحلين و أهوالهم. أصبح مصرا على بقاء صوفيا بالساحة الحمراء ،و أرفض أن تظل أسيرة المغارة وأشباحها . كانت تقدم لي نصف ابتسامتها على طبق من ذهب. أسألها عن السر في وجودها بالقرب مني، ترد علي بعد ثوان:
ـ هناك، كلهم مكبلون، حزينون ،ينتظرون لحظة انعتا قهم. لقد تركتهم لوحدهم و هم على أهبة الاستعداد للخروج. لا تقلق، أنا هنا بالقرب من كل ذكرياتك وأطلالك. أنا أتجاوب مع رنين آهاتك . أستنشق رائحة غضبك و عنفوانك .

صوفيا مازالت بجانبي . لحسن حظي مازلت غارقا في حالة الانفصام ولو أنها اغتالت في نفسي روح التطلع. كم هو غريب أن يكون الانفصال عن الذات متعة مع الغير. أكيد، لو لم تكن صوفيا موجودة لخلقت صورة لها وليقع ما يقع !

صوفيا لم تكن إلا عابرة و كأنها ستعود للأبد . سماء موسكو تدعونا إلى الاستعداد للبرد و الثلج الذي يحول الناس إلى حمقى و نور النهار إلى سراب. بدأت قطرات المطر تسقط على رأسي ووجنتي . نظرت يمينا و شمالا . غادرت صوفيا الساحة الحمراء و تركت لينين في مرقده يتيما. رحلت وتركتني متعبا، لا أقدر على الحركة، أمشي وكأنني محطم الكتفين. أخطو إلى الأمام ثم إلى الوراء . لم يعد للشقراء الروسية أثر هنا و هناك ،لكن ستعود صوفيا و معها أولئك الذين قضوا عقودا من الزمن ،داخل مغارة الحرية ،يبحثون عن الحقيقة ، حقيقة الوجود المسكون بوهم الموجود .
صحافي وكاتب مقيم بموسكو








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل