الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى نكف عن العناد ؟!

سعود عبدالله الجارح

2003 / 10 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


 

يسيطر الأصوليون التقليديون على توجه الرأي العام في المجتمع السعودي، ومن المعلوم ان الحركة الأصولية هي حركة ماضوية في طبيعتها، ترفض الحاضر، وتتخيل مستقبلاً لا يختلف عن الماضي في شيء؛ إلا ان حركة التاريخ تثبت ان هذا الفكر لم ولن يقدر له الوقوف في وجه حركة التطور والتغير الاجتماعي، ومن هنا كانت اشكالية المراحل الثلاث التي يمر بها الاصوليون - ومن وراءهم المجتمع - تجاه كل فكرة جديدة، فبالبداية يكون الخيار الوحيد هو الرفض التام لهذه الفكرة، ومن ثم يبرز خيار التعايش معها، و في النهاية يكون قبولها بشكل كلي لا يستدعي تشكيكا في شرعيتها ولا في وجودها. ان هذه المراحل الحتمية للفكر الأصولي تجاه الجديد هي أمر طبيعي وملازم ضد كل ما هو حديث، أو لم يكن في وقت السابقين الأولين، تتفق في هذا كل أصوليات العالم سواء كانت اسلامية او مسيحية او حتى بوذية. هذه الحقيقة ليست بالجديدة، لقد اكتشفها وكتب عنها الكثيرون، حتى قال أحد الشعراء:

قل لمن لايرى للمعاصر شيئا *** ويرى للأوائل التقديما
ان هذا القديم كان جديداً *** وسيغدو هذا الجديد قديما


حينما تفشى الطاعون في "تبريز" الإيرانية ثم وصل الى كركوك في العام 1830، طلب داود باشا من طبيب القنصلية البريطانية اعداد منهج للحجر الصحي بغية منع الوباء من التقدم الى بغداد، وبعد ان شرع الطبيب البريطاني في إتخاذ اجراءات الحجر فوجيء الباشا بصدور الفتاوي الدينية من المشائخ التقليديين بتحريم إجراءات الحجر الصحي كافة، مما أدى الى تقدم الطاعون نحو بغداد وتفشيه فيها حتى بلغ عدد الجنازات اليومية في بغداد عدداً يناهز الثلاثة الاف جنازة. وبينما كان هذا واقع المسلمين المر في بغداد، كان الاوروبيون الموجودون في بلاد الرافدين قد بدؤوا بإجراءات الحجر الصحي، وقد أقتدى بهم مسيحيوا العراق، مما ساهم في ندرة الاصابات بهذا الوباء بين صفوفهم.
وينقل سليمان فائق في مذاكراته انه حين عودته ومن معه الى بغداد لم يجدوا احدا في الطرقات التي مشوا فيها، حتى ان امه قالت لمن معها من النساء: (أيتها البنات لايوجد أحد في الطريق فلم نسير وقد أسدلنا هذا النقاب)، إلا انهم بعد وصولهم الى حلة النصارى شاهدوا امرأة تطل عليهم من أحد الدور، وحين سألها سليمان عن سر بقائها هي وأهل بيتها أحياءاً مع العلم ان غالبية السكان قد توفوا من جراء الطاعون، قالت المرأة : (نحن نصارى، وقد جئنا الى هنا ونحن بضع عائلات، وأقمنا الحجر، وعددنا واحدا وأربعين شخصاً بالتمام، فأصبحنا بحمد الله ثلاثة وأربعين وذلك بولادة طفلين جديدين في صفوفنا) (1)

وفي أسطنبول حين أقتنع سلاطين بني عثمان بان الجيوش العثمانية لن تتمكن من مجاراة الجيوش الاوروبية التي تحارب وفق أحدث الخطط والمخترعات، تقرر ان يتم تحديث الجيش العثماني، وبدأت الاستعانة بالخبراء الأجانب لتنفيذ هذه الغاية، إلا ان الفتاوي الدينية أخذت طريقها وكما هي العادة بمحاربة كل جديد، فقد قررت هذه الفتاوي ان فتوحات المسلمين في العصور السابقة لم تكن بحاجة للخبراء الاجانب ولا للاساليب الحديثة، وان هذه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار، وأنتهى الأمر بان ثار الجنود الانكشاريون على السلطان سليم الثالث وحاصروه في قصره، ثم خلعوه بعد ان تحصنوا بالفتاوي الشرعية، ووضعوا مكانه سلطاناً جديداً! (2).

اليوم لا نجد احداً في العراق يحرم الحجر الصحي، وأظن ان الاسلاميين في تركيا يؤيدون وبقوة خطط تحديث الجيش وتطويره لمواجهة كافة التحديات التي قد تعترض البلاد في أي حين.

وفي وقت الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن مؤسس الدولة السعودية الحديثة، ثارت جموع العلماء نتيجة لإدخال التلغراف في الدولة، وقد أفتى الشيخ محمد بن عبداللطيف وجموع من العلماء بعدم جواز ذلك، وقالوا في الفتوى: (وأما وضع البرقيات في الرياض وغيرها من قرى نجد، وما يترتب على ذلك، فلا نراه جائزا ولا نفتي به ونبرأ إلى الله من الإفتاء بشيء يترتب عليه المفاسد.) (3).
واليوم، هاهو مفتي البلاد السعودية لا يستطيع الاستغناء عن الهاتف والتلفزيون، وتطرب أسماعنا بين الحين والآخر بسماع خبرٍ عن أرساله لبرقية تهنئة أو تعزية لأحد المسؤولين الكبار في الدولة.

أما في وقت الملك فيصل بن عبدالعزيز فقد ثار علماء الدين نتيجة للقرار القاضي بفتح المدارس للفتيات، ولولا حزم وإصرار الملك فيصل لبقيت المرأة السعودية جاهلة كما كانت، ولما كتب لها ان تساهم بنصيبها الضئيل في مسيرة التطور الحضاري في البلاد، ومن المعلوم ان معارضي الأمس، هم باليوم، أكبر المطالبين للدولة بأن تقوم بواجبها بفتح المزيد من المدارس للبنات !.

أذكر انه في بداية صدور قرار السماح للنساء باستخراج البطاقات الشخصية، كانت المعارضة الدينية التقليدية لهذا القرار تتتصاعد يوماً بعد يوم - كما هي العادة برفض كل جديد-، وقد تسابق التقليديون بكتابة العرائض وتدبيج المقالات واعتلاء المنابر لشجب هذا القرار الذي تأخر اوانه كثيرا في نظري. ولازلت أذكر أحد الاصدقاء المتزمتين حين وصف كل من يسمح لمحارمه بإستخراج هذه البطاقة بانه "ديوث"!!. و قبل فترة بسيطة كان صديقي هذا يسألنا ان كان استخراج البطاقة للمراة يسلتزم واسطة لانهاء الاجراءات وان كان كذلك فمن بامكانه ان يتوسط له، حيث ان زوجته قد عزمت على استخراج بطاقة شخصية لها.!

لا غرابة إذا كان هذا حالنا ان نستمر كما نحن عالة على الحضارة الانسانية، قد نساهم في هدمها، ولكن يستحيل ان نساهم في بناءها. ان اختزال الحضارة باستيراد أكبر كمية ممكنة من المنتجات الحضارية الحديثة دون ان يكون لنا دور في تطويرها وتحديثها ليس له أي مسمى في نظري الا في ان يكون "تهريجاً" وربما تخلفاً، فلا يمكن لنا ان نساهم في دفع عجلة التطور الحضاري الانساني الى الامام إلا بعد ان نغير معاييرنا الفكرية التي نحلل الأمور من خلالها، أو بعبارة أخرى : من اللازم علينا قبل ان نستورد المنتج الغربي المادي ان نقوم بأستيراد الفكر والمنهج الذي صنعه، ذلك الفكر الذي هو قمة ماوصلت اليه الحضارة الانسانية المتراكمة، ولن يكون ذلك إلا بعد ان يتم تحطيم كافة الأصنام والأنساق الثقافية البشرية، ومتى ماتم هذا، فقد يذهل العميان رؤية الصبح.


الهوامش:

(1) القصة بكاملها منقولة بتصرف من مؤلف الدكتور علي الوردي : لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج1، مكتبة الحيدرية، 1378-1379 , ط2، ص 269 – 275

(2) د.علي الوردي، مرجع سابق، ص 260

(3) عبدالعزيز التويجري، لسراة الليل هتف الصباح ، ص 273

 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اطفال الشطرة يرسمون لغزة


.. غانتس يهدد بانسحاب حزبه من حكومة الائتلاف ما لم يصادق نتانيا




.. مراسلتنا: استهداف موقع الرمثا الإسرائيلي في مزارع شبعا |#الظ


.. السعودية تشترط مسارا واضحا نحو إقامة دولة فلسطينية مقابل الت




.. الجيش الإسرائيلي يواصل تصعيده ضد محافظات رفح والوسطى وغزة وا