الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجنة

خالد درويش

2007 / 10 / 6
الادب والفن



في صندوق زجاجيّ مغلق تحت الماء كنت أجلس مع كهل تسعيني لا زال يحتفظ بالحيوية والفطنة ليفسّر لي أحجية تشابك الأزمان:
"الصّيف للمساء والخريف للظهيرة، الشتاء للصّبح والربيع لمنتصف اللّيل".
لم أعي ما يرمي اليه محدّثي وطلبت منه زيادة الايضاح فقال:
"هذا صوتي في المساء، اسمع!"، وصفر بشفتيه ما يشبه بحّة ناي حزينة.
"وهذا صوتي في الصباح، اسمع!"، وأطلق ضحكة مجلجلة.
لم أفهم، استوضحته ثانية، فأنهضني وأمرني أن أنظر الى أعلى. نظرت فرأيت شمسا ساطعة ترسل أشعتها الحادّة عبر الماء.
"ماذا ترى؟"، سألني.
"أرى الظهيرة."، أجبت.
وجّه الكهل لوحة تحكّم بأزرار كثيرة متعدّدة الوظائف نحو الشمس، ضغط على أحد الأزرار فأحال الشمس الساطعة الى قمر باهت، وقال:
"والآن، ماذا ترى؟".
"أرى الليل."، قلت.
ضغط على زرّ آخر في لوحة التحكّم فمحق الفضاء المائيّ كلّه وسأل:
"هل تراني؟".
لم أكن أراه، لم أكن أر شيئا. حدّقت في العتمة، أمعنت النظر الى وجهه بلا جدوى. حاولت تحسّسه فما لمست غير الفراغ. طالت العتمة وطال غيابه. استسلمت، وما ان توسّلت اليه مستكينا:
"أرني وجهك!".
حتى أخذ الشفق في الافق الشرقي يحمرّ ويرتفع تدريجياً ليغطّي نصف السماء، فيما توهّج النصف الآخر بلمعان فضّي، ثم أظلم الفضاء كلّه دفعة واحدة وهطل المطر غزيراً.
كانت العتمة تغمر كل شيء؛ شعرت بالبرد والخوف، بالاضطراب واليأس. وأدركت أنّ الموت أدركني فغفوت.
وصلت في نومي الى باب خشبيّ مغلق في سور من حجر أبيض حول حديقة عشوائية، ولكنها غنية بالينابيع والأشجار والأزهار والطيور. حديقة مدهشة تتألق تحت سماء مشمسة وزرقاء ونظيفة. كان السور حول الحديقة واطئا الى الحد الذي يسمح بالاطلال على البهاء كلّه، وكان السور عاليا بقدر يعجزني عن تخطّيه. كان الهواء خارج السور ثقيلا ومشبعا بالكربون والكبريت. أعياني الإنتظار، مشيت بمحاذاة السور مشدوها بالجنّة، مفتّشا عن سبيل للوصول اليها. بدأ الدوار يمسك برأسي والغثيان يغشى أحشائي.
جاءني صدى صوت الكهل من بعيد مثل حفيف شجرة الكستناء:
"دع عنك خوفك واخلع أمانيك!".
وفي الحال حطّت على الباب الممغلق آلاف القبّرات فإنفتح الباب. هممت بالدخول إلا أنّ هواء نظيفاً وثقيلا أخذ يصدّني. كان عليّ أن أتجرّد من خوفي وأمالي، أن أتعرّى من ملابسي وأتركها خارج السور... وهكذا تمكنت من الدخول.
سرت عارياً، خفيفا عبر المسارب والدروب منتعشاً بجداول ماء كأنّها مرايا وعشب ملون ينبت في مساكب متعددة الأشكال وأشجار باسقة منمقة تحنو على شجيرات ناعمة تصدح بألحان شجية.
حديقة جميلة بنباتات معروفة وأخرى لا أسماء لها، ولكنّها، ما أن تلامسها الأصابع حتى يتدفق في البال سيل من المعلومات عن تاريخ تفتحها وكمية النسغ الذي رضعته ومعادلات ألوانها ورائحتها. ولما كان بالإمكان توليف معادلات جديدة لإستنباط أنواع لا حصر لها من النباتات رحت أتلهى بإنشاء ما يحلو لي من الأصناف: نرجس برائحة أمّي وهندباء بطعم العسل، سنابل بلون البحر وقثاء برائحة المشمش.
كان بإمكاني أن أفعل ما أريد، أن أتسلّق الهواء الى أغصان شجرة الكرز وأصغي أو أمتنع بارادتي عن سماع زقزقة الطيور في أعشاشها الزجاجية العلّقة على أبراج من الذهب وأحيل ماء الخوابي الى نبيذ. كنت قادرا على استحضار صوت نيرودا ليقرأ لي أشعاره عن الحبّ والموانىء والعزلة، وأن أقول للحجر كن صديقي فيكون. كان باستطاعتي أن أضع القمر في قبّعتي وأحشر الشمس في قمقم من نحاس... ولكن الأمر الذي لم أتمكن من صياغته، رغم محاولاتي المريرة هو ذلك القلق الصغير العذب الذي يساور اللحظات الأخيره التي تسبق اللقاء الأول مع إمرأه تطلّ من نهاية الشارع في العاشرة صباحا بقميصها الأخضر وأزهارها الضاحكة. حينها، حينها فقط شعرت بحنين جارف الى الخوف والأماني، ورحت أركض لاهثا بحثاً عن ما يستر جسدي العاري وروحي المكشوفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-