الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطائر الناري

حيدر السلامي

2007 / 10 / 8
الادب والفن


الضوء يتسلق الحائط مرتعشا.. يرسل أخيطه الفانوس العتيد. لقد اعتاد هذا الفانوس أن يرقد في العتمة منذ سنين وهو مع ذلك راض بقدره مقرور العين لا يخشى الزمن ولا العنكبوت ولا حتى الظلام، لا يخشى غير الإنسان.. الساعة التاسعة من ليل العشرين.. السماء؟! لم أرها منذ رحيل الشمس الأخير.. اجتمعنا نحن الخمسة في الغرفة المحايدة كل على فراشه.. رسول يدور قرص الموج الصاخب في الراديو الأحمر الصغير.. أمي دخلت عالمها فجعلت تبسبس مبهورة الأنفاس.. بضع أدعية وآيات تعقبها استغفارات بتراء ثلاثة على الأغلب.. أما زينب فكانت ترضع ابنها أمين في زاوية لا يلامسها الضوء إلا قليلا، بدت مذهولة مضطربة شاحبة الوجه تفكر بالمجهول ولعلها راحت تفكر أيضا: إن أمين أصبح بأمس الحاجة الآن ـ وقد بدأ ينطق ـ إلى أبيه الذي قضى ثماني سنوات في الحرب ولا أحد يدري أين هو في هذه اللحظة... غادرنا إلى وحدته الفعالة في الجبهة قبل أكثر من شهر ولم يصل منه خبر كالعادة.
ومع أني لا أحب التكلم عن نفسي، سأخبركم بأني كنت أقرأ في كتاب لم أفهم منه كلمة قط.. وهكذا وصل الرقاص إلى الحادية عشرة أو كاد.. رمست وجهي بين ركبتي ولففت نفسي باللحاف.. فكرت: هكذا يمكنني تلاشي الأفكار الباردة التي تسبب الصداع والقلق وربما تستدعي البكاء أحيانا.
هنيهة وتسربت الأفكار المرة إلى خلدي من جديد.. لولا تيار من الذكريات هاج كأنه البحر ليغمرني كليا. أحسست ببعض النشوة والدفء وأنا أتذكر حكاية ميلادي التي حكتها لي أمي ذات يوم.. وارتسمت في ذاكرتي صور عن طفولتي.. كنت أتزعم أقراني الصغار وأخترع لهم ألعابا وأطلق عليهم ألقابا ما كانت لتطرأ على إبليس حتى.
كانوا يسمونني الذكي ويلقبونني بالمارد وكثيرا ما كانوا ينادونني بالفيلسوف لكثرة تشدقي بالألفاظ الرنانة والمصطلحات الكبيرة على أعمارنا.. لعلكم تنكرون علي هذا الإسهاب في الحديث عني رغم زعمي السابق ولكم الحق طبعا ولكن شيئا ذا بال لم يحدث بعد، غير أن أمينا بدأ للتو يصرخ وهاهي أمه تحاول جاهدة إسكاته..
لقد تحطمت الآن أسوار الخيال فانتفضت..
ـ زينب (طفلچ يمه).. نادت أمي.. حسبتها نائمة.
ـ(گاعدة).. أجابت زينب باستغراب.
عادت الوالدة إلى سيرتها الأولى تستغفر وتتوسل بالخالق.. وما هي إلا دقائق وإذا بالصاخة ترتفع في السماء التي لم أكن رأيتها منذ أول خيط أسود.. كل شيء أخذ يضطرب.. الأرض تهتز .. النوافذ.. الأبواب.. اصطكت.. كأن بركانا قد تفجر أو زوبعة لفت كل العالم كجريدة وراحت تعبث بها وتعيث لهوا وفسادا.. الجهات الست جعلت تتدافع وتتقلب كحيات بطنا لظهر حتى بدا الكون يعود إلى حالة السديمية كما يزعم الشيوعيون.. نهضت دون شعور أو لم أنهض من مكاني.. لا أتذكر!! أمي أخذت تصرخ .. تعول.. ازدادت لهجتها في الدعاء صخبا.. سيطر الذعر عليها.. المسكينة..! تمضغ الكلمات ناقصة الأحرف! هكذا جملا غير مفيدة.. أخذ رسول بيدها.. عانقها..
ـ ما هذا؟!
ـ صرخة من الطرف الآخر.. أم فارس.. نعم إنها أم فارس جارتنا الطيبة.. أفزعها دوي الطائر الناري.. زينب.. لا أدري لقد ذهلت عنها.
أعقب ذلك كله صمت عميق ران على جميع الأشياء.. الرقاص يقترب من الثانية عشرة والنصف.. قال رسول: قريب جداً.. أجبته: نعم ولقد تكسر زجاج النوافذ وأشك بسلامة الأبواب.
وفي الصباح خرج الناس ليروا السماء ويتأكدوا أين حط الطائر الناري تلك الليلة وكم هي الخسائر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا


.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور




.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان


.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل




.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين