الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما الذي يجري ؟

يوسف ابو الفوز

2007 / 10 / 9
الادب والفن


قصة قصيرة

ترك بناية محطة القطار خلفه ، وسار متمهلا على طول شارع " أبو الستين " الذي تغير ليس أسمه فقط ، بل وظهرت على جانبيه بنايات جديدة . كل شئ حوله يتغير ، ويرتدي ثوبا أخر يجعله يشعر بشيء من الدوار . السماوة تبدو له وكأنها مدينة أخرى ، لا تشبه المدينة التي يعرف جيدا دروبها وأسواقها وأزقتها وقضى فيها سنين طفولته وصباه . مدينته تبدو له كمدينة أخرى زارها يوما فعلقت في ذاكرته منها صورا باهتة ، وهاهو كمن يعود إليها في زيارة عابرة ، ليضيع وسط شوارع وأسواق جديدة . هاهي بنايات جديدة حلت مكان " بستان السادة " الصغير الذي طالما بعد رنين الجرس الأخير للمدرسة يهرع أليه وأترابه ليقضوا بين نخله ساعات يمارسون ألعابهم المختلفة ، يملأون المكان بصراخهم وضحكاتهم ، وليعلوا ضجيجهم على كل ضجيج ، يتجاوز " حمام الحسيني " وشارع العيادة الشعبية ليصل بيوت " عـكـد الجامع " ، فيهرع المتأخرون من الأصحاب الى الانضمام إليهم . أين كل هؤلاء الآن ؟
البارحة ، عامدا وقف عند ناصية الشارع منتظرا عودة أمه من السوق ، شئ ما في داخله دفعه الى ذلك ، لتفحص وجوه المارة ، باحثا عن وجوه معارفه الذين صار يفتقدهم كثيرا . بعض من المارة حدجه بنظرات جانبية مستنكرا فضوله ، وثمة سيارة " فولكس واغن " رمادية ، دارت مرتين وراح الجالسين فيها يتفحصونه جيدا ، أفتعل عدم الاهتمام بهم ، بينما راح صدره يعلو ويهبط ، وحدها جارتهم العجوز ، التي تثير أصص ازهارها فضول الاخرين ، ما ان لمحته حتى هرعت أليه ، وهي تصرخ :
ــ طالت غيبتكم يا بعد روحي !
واحتضنته بحب وقبلته على وجنتيه مستذكرة فيه ابنها ، زميل دراسته ، الذي اختفى فجأة وسرت أقاويل كثيرة في المدينة حوله منها انه يعيش مع العصاة الأكراد * في الجبال !
نظرات المارة ، التي كانت تربكه قليلا ، لم يجد فيها تلك الألفة التي ينشدها ، والتي كان يعرف ، كانوا ينظرون أليه كالغريب ، وكأن الحارة ليست حارته التي طالما كان يقف إلى ناصية شارعها ، ويتجول بين أزقتها ، يحاور من يشاء رجالا ونساء ، حتى أنه أحيانا يحار لمن يوزع التحايا والابتسامات . كان يعرف بنات الحارة واحدة واحدة ، ورغم سواد عباءاتهن ، يستطيع التعرف عليهن من بعيد ، من مشية كل واحدة فيهن ، حتى لو كن مدبرات ، ويعرف فتيان الحارة ليس بأسمائهم وإشكالهم فقط ، وبل وبعض أسرارهم . هاهو يتجول في المدينة منذ ساعة واكثر ، عله يمسك بشيء من الماضي هذا الذي يحرص على الحفاظ على صفحاته الطيبة نقية ، صافية ، مثل مرآة عروس . لكم هو مخيف أن يفيق الإنسان ليجد نفسه بلا ماض ، بلا شواهد عليه ؟ كيف ستتفحص العروس نفسها لو تشظت مرآتها ؟ أين الأصحاب ؟ كالماء تسربوا من بين الأصابع ، منهم من غادر البلاد قبل بدء الحرب ، دون وداع ولو بكلمه ما ، دون أن يتركوا أثرا يدل عليهم ، فجأة تبخروا ، ومنهم من ضمته سراديب وزنزانات السجون وعذاباتها ، ومن قدر له وغادرها بعد حين ، كان مجرد حطام ، فأعتزل الناس والحياة العامة ، ثم جاءت الحرب لتقرع أبواب جميع الناس ، ولتطحن الكثيرين ، وأما من ظلوا أحياء فصاروا أشباحا ، يسيرون الهوينا وكأنهم شاخوا فجأة ، وان التقى أحدهم عرضا ، يجده مهموما ، يتكتم على نفسه ، عجلا يلهث للحاق بشيء ما سيفوته ، فيحس بشظايا المرآة تحز ثنايا الروح ، تدمي القلب ، فينادم كأس الخمرة ، مخفيا ذلك عن أمه ، يعذبه الإحساس بأن الفتحات بين أصابعه ، صارت أوسع وأوسع مما ينبغي، وانه قريبا ، سيصحو ليطل عليه وجهه ، وفي إطار مرآته ، منفردا ، منفرا ، فتداهمه نوبات غضب وبكاء مفاجأة ، لا تفهمها أمه التي ظلت شاهده الوحيد على حياته التي صار يفتقدها . وثريا ، فتاته ، التي كان يعتقد ان حياته سترتبط بحروف اسمها ، صارت علاقته بها تتدهور يوما بعد اخر دون ان يتمكن من اصلاح ما يتكسر فيها ، في كل زيارة الى بغداد صار يشعر انهما غريبان عن بعض ، يدوران في دائرة اتهامات متبادلة . وحتى أخته ، اكتشف اليوم أنها لم تعد تلك التي يعرفها !
صباحا ، استيقظ على بكاء أخته المكتوم ، واحتجاجها الغاضب بكلمات لم يفهم معناها ، وحين دخل المطبخ الصغير يدفعه العطش لاحظ نظرات أمه الصارمة ، لكن أخته اندفعت أليه واحتمت خلفه ، وراحت تتمسح به كالقطة :
ــ قل لها بربك ، قل لها يا عزيزي ، كل صديقاتي ارتدين هذا القميص ، لماذا أنا الوحيدة لا أستطيع ارتداءه ؟
وتساءل بأستغراب ؟
ــ أي قميص ؟
فردت أخته بدلع وهي تحتضنه وقد لمست الحياد في صوته :
ــ موديل جديد يسمونه " ديسكو " !
وراحت توشوش عند أذنه بكلمات ناعمه ، وتقبله في وجنتيه ، بينما كانت أمه تدمدم مع نفسها وهي تتحرك بعصبية ، وانتبه ، وكاد يغص بكأس الماء . انتبه إلى أن أخته لم تعد تلك الطفلة الصغيرة التي يستذكر دائما وجهها وسط دوي القذائف ليشعر بالرغبة في الحياة ، فخلال غيابه الطويل عنهم في الجبهة ، هناك عند حافات الموت حيث يتواصل طحن ماتبقى له من شواهد حياته ، حتى يحين دوره شخصيا ، نمت أخته الطفلة ، وتغيرت ، أخذت استدارات جسدها تبرز اكثر وضوحا ، وتبدلت اهتماماتها ، لم تعد تلك الطفلة التي يعرفها ، والتي حين يصل السماوة في قطار منتصف الليل قادما من البصرة ، خلال إجازات الدراسة الجامعية ، وإذ تكتشف وجوده صباحا ، تنسل إلى سريره مثل القطة لتنام متوسدة ذراعه ، دافنة رأسها في صدره . صباح اليوم وقفت أمامه بقامة امرأة ، متوسلة بغنج . صاحت أمه :
ــ أصلّع رأسي من مطالبك يا ابنتي ، هذا أخوك ، هو ولي أمرك وليتصرف !
رغم نبرة الغضب في صوت أمه ، إلا انه يدري أن خلف ذلك يختفي فرحها به ، كونه بعد وفاة والده وبجدارة اخذ على عاتقه مسؤولية العائلة ، رعاية أمه وأختيه ، الأخت الكبرى تزوجت وغادرتهم إلى حياتها الجديدة ، وهاهي الثانية تريد أن تنط من صفحة المرآة ، بعد أن تركت ثياب الطفولة خلفها . كانت أخته تسند رأسها إلى ذراعه ، وعيناها ترمقان وجهه بتوسل ، منتظرة رده، مسد خصلات شعرها بحنان ، قد يذهب هذه المرة ولن يعود ، وقد تكون أجازته الاخيرة ، ماذا ستتذكر منه ؟ ليجعلها تتذكره جيدا ولو بقميص ديسكو . غمزها مبتسما وهمس بتآمر :
ــ آ ... كم يبلغ سعر هذا القميص ؟
للحظات رمقته أخته بنظرات متسائلة ، ثم احتضنته فرحه ، وعيناها تفيضان محبة ، طبعت على وجنتيه مزيدا من القبل ، وأطلقت صيحة نصر ، ابتسمت أمهم أولا ، ثم أطلقت ضحكة ، فشاركها بذلك مدركا انه لم يغضب أمه بتصرفه ، وتوجه إلى غرفته للحاق بموعد الزيارة التي كان لأيام يعد لها نفسه .
لم يرغب في أن يقوم بهذه الزيارة ، أشياء عديدة في داخله تمنعه ، حاول التهرب من ذلك ، أيجاد عذرا ما ، لكن كامل ، كعادته وبمهارة ورطه فيها :
ــ يا اخي يمكن لك الاعتذار ، أنسيت ماذا كان يشكل لنا اسماعيل ؟ وأي حقوق له علينا بسبب ذلك ؟ أنه جزء من هذا الماضي الذي تبكيه كل يوم ، وعائلته الآن في وضع صعب ، وهو نزيل المستشفى ، وهاهو ابن حلال في أيام تغيرت فيها أخلاق الناس وقلت بينهم النزاهة، يسلمنا نحن أصدقاء اسماعيل مبلغ من المال كان بذمته لاسماعيل ، قل لي بربك وبحق الصداقة التي تجمعنا ، من غيرك اجدر بان يقوم بهذه الزيارة وتسليم المبلغ لعائلة اسماعيل ؟ والله لولا تورطي بمساعدة أختي في ترميم دارها لكنت رافقتك في هذه الزيارة !
هاهو يقطع الشارع الأخير ليصل دار اسماعيل ، وثمة ما يدفعه لعدم الذهاب الى هذه الدار ، التي طالما آوتهم غرفتها العليا أيام الاستعدادات لامتحانات الدراسة في الإعدادية . شئ من الخوف أن توجه إلهام اخت اسماعيل ضربة لما تبقى من مرآته ، كان يريد الاحتفاظ لنفسه بأمل أن يكون ما يتناقله معارفه افتراء ، وان لا يرى الهام مثلما يصورها الاخرون له . يتذكرها على الدوام صبية خجولة ، لها من الجمال ما يكفي للفت الانتباه ، في زياراته لبيت اسماعيل ، قلما كان يرى وجه الهام ، كانت تسلم أخاها صينية الشاي من خلف الباب ، ومرات نادرة تلك التي سمع فيها صوتها مرتفعا ، ويوما في رحلة ترفيهية الى البساتين عند ضواحي المدينة ، ظلت طول الوقت قابعة في مكانها ، لم تختلط حتى بالنساء ، ولم ترفع عينيها عن الأرض مطلقا ويومها فكر مع نفسه :
ـ لو قدر لي أن أتزوج فلن أجد غير هذه الفتاة الخجولة لتكون أما لأطفالي .
قبل أن يفتحوا له الباب مرت في باله عشرات الصور ، وحين توسط الجميع في الصالة الصغيرة ، التي لم يتغير أثاثها لكنه ظل منسقا بشكل جميل يعكس ذوق أمهم التي بدا أنها شاخت بشكل مبكر ، وحين تقدم الجميع لتحيته راحت العجوز وسط نحيبها تقدم له بناتها اللاتي كبرن وصرن عرائس ، وحين جاء دور الهام لتحيته ومصافحته بالكاد استطاع إخفاء ارتباكه ، وراح يسائل نفسه مرارا : أيعقل هذا أن تكون هذه هي نفس الفتاة التي يعرف ؟ تلك الفتاة التي صادفها مرة عند باب البيت خارجة فكادت أن تسقط متعثرة بخطواتها فراح أخوها اسماعيل يشاكسها بذلك ؟ أمامه جلست بجرأة امرأة أخرى ، امرأة ثانية لا تمت بصلة لتلك التي حلم يوما بان تكون زوجة له ، أمامه تجلس امرأة لم ترفع عينيها عنه ، بملابس عصرية حسب الموضة ، ثوب قصير قماشه يلتصق بالجسد فتبان تفاصيله وحركة كل ثنية فيه ، وبفتحة عند الصدر تكشف استدارة النهدين وبروزهما ، وحين جاءته بكوب الشاي ووضعته أمامه لم يستطع إلا أن يلمح تلك الشامة بين مفرق النهدين الذين تصور انهما سيندلقان أمامه على الطاولة . وها هي الهام امامه بوجهها المثقل بالماكياج وشعرها الذي لا يستقر بحال مع حركة يديها الدائمتين، تحدثه عن هموم العائلة التي لا تنتهي:
ــ لم يكن ينقصنا إلا هذا !
كان يشعر بالألم لمصير اسماعيل . فأثناء تعرض موقع الفوج لهجوم مدفعي كاسح ، لم يبق من الجنود سوى عدة . حين فتح اسماعيل عينيه في سيارة الإسعاف كان كل شئ قد انتهى ، حملوا الجنود القتلى إلى قبورهم وحملوا اسماعيل إلى مستشفى المجانين . زاره وكامل هناك مرارا ، لم يكن الأطباء يشيرون إلى أي أمل لشفائه ، ورغم ذلك أعادوه بعد شهور ليخدم في وحدة خلفية ثم ليعود ثانية إلى المستشفى . كانت العجوز تتحدث عن مصيبتها بفقدان زوجها بالسكتة القلبية ، وبفقدان ابنها الثاني الذي سجل كمفقود في الحرب ، ومصيبة اسماعيل الذي لم يزرهم من شهور طويلة . حاول مواساة المرأة التي طالما منحتهم عطفها ، وسهرت على راحتهم أيام دراستهم ، قدر أنها ترى فيه طيف أبنائها ، حاول الإشارة إلى ابنها الأصغر الذي كان يجلس في الطرف الثاني من الصالة ، يراقب التلفزيون غير عابئ بكل ما يدور ، وحين حدق مليا إلى الصبي وحركاته لاحظ شيئا مشتركا بين جميع أفراد العائلة ما عدا ألام ، كانوا كلهم يمضغون العلكة. وراح ينتبه الى كون إلهام تمضغ العلكة بشكل خاص تصدر معه صوتا معينا من فمها ، وتلوى أثناء ذلك شفتيها بطريقة بدت له غير لائقة ، وشيئا فشيئا بدت له حركات المضغ مقرفة . حاول أن يزرع في ألام شيئا من الأمل بشفاء اسماعيل وعودته اليهم ، لكن الهام فاجأته وقاطعت كلامه، ووجهت كلامها الى أمها مباشرة :
ـ ولماذا نضحك على أنفسنا بمثل هذا الكلام يا أمي؟ لقد قال الأطباء أن حالته ميؤوس منها ؟
حاول أن يرد بشيء ، أن يواصل كلامه مع ألام ، أن ينقذها من كلام ابنتها الذي يحشرها في زاوية الألم :
ـ ولكن يا ...
ـ اعرف أن كلامي لا يعجبك ، ولا يعجب أمي أيضا ، ولكن لو كان اسماعيل مات على الأقل أراح نفسه وأراح الاخرين .
وانفجرت ألام باكية :
ـ لا يصح يا أبنتي أن تتكلمي بهذا الشكل عن أخيك !
وسمع الهام وهي تلوك علكتها وتطلق صوتا من بين شفتيها المطليتين بلون فاقع :
ـ انه آخي مثلما هو أبنك ، ولو مات كنا على الأقل استفدنا من التعويض .
وهو يغادر البيت مهموما ، كانت في باله جملة الهام حول التعويض ، لم يعد يتذكر نحيب ألام ، ولا وجوه بقية أفراد العائلة المتعبة ، وطول الطريق ، لم يعد يرى سوى فتحة فم الهام وهي تلوك علكتها وصبغة احمر الشفاه الفاقعة ، وظل يرن في باله الأصوات التي يطلقها الجميع وهم يمضغون العلكة بشكل مقزز .
وصل إلى بيت أهله . فتحت له أخته باب الدار ، وكانت تطق بعلكتها وتفترش وجهها الفتي ابتسامه أمتنان ، أرادت أن تقول شيئا ما ، لكنه فجأة صاح بها :
ـ أرم العلكة ... أرم العلكة !
وتلوت أمعاؤه ، وضغط شئ حامض على بلعومه ، زم شفتيه ، غامت عيناه خلف ضباب كثيف . سألته أخته بفزع :
ـ ماذا ؟
لم يرد بشيء ، رن كفه على خد أخته التي ذهلت للحظات ولم تهرب ، بل تسمرت في مكانها وانهدت تعوي :
ـ لماذا ... لماذا ؟
جرى إلى الحمام ، وضع فمه في الحوض ، وفتح صنبور الماء . كان صوت أمه يصله قويا يرن كجرس :
ـ ما الذي يجري ؟ **

خريف 1987
كوردستان ـ قرية بيرموس ( ريف دهوك)
ــــــــــــــــــــ

* العصاة : تسمية أستخدمها إعلام النظام الديكتاتوري المقبور دلالة على الثوار وقوات البيشمه ركة ( الانصار ) الذين قاومو بالسلاح سلطة الديكتاتورية في العراق .
** النص من مخطوط قصصي يبحث عن ناشر










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف