الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهافت الفقهاء .. قضية الرق نموذجا

بركات محي الدين

2007 / 10 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


المشهد الأول :
الزمان :العصر الجاهلي ، المكان شبه الجزيرة العربية ، الحدث : غارة لإحدى القبائل العربية على قبيلة عربية أخرى بسبب الصراع على النفوذ أو على الكلأ أو ثارٍ قديم أو ناقة تافهةٍ لامرأة اسمها البسوس ينتج عن هذه الغارة عشرات أو مئات القتلى والى جانبهم عشرات السبايا من النساء والأطفال والضعفاء الذين يقادون إلى مضارب المنتصرين ثم يتم توزيعهم كجواري وغلمان على صعاليك الحرب أثناء حفلة توزيع الغنائم التي تقام في الليلة الثانية من النصر المؤزر والتي تمتزج فيها أغاني البدو مع رائحة الشواء والخمرة.
المشهد الثاني:
الزمان : يمتد من سني الفتح الأولى وحتى نهاية العصر العباسي التليد ، المكان : أسواق ومتاجر إسلامية في مدن الإمبراطورية الشاسعة التي تحتل بقعة من الأرض تمثل ثلاثة أرباع العالم القديم . الحدث: احد النخّاسين يقف في سوق من أسواق بغداد أو البصرة ، أو غرناطة لا فرق . ويعرض بضاعته المؤلفة من الجواري والغلمان من جنسيات مختلفة فارسية تركية ، أذرية، أي شيء ويفتح المزاد العلني لبيع الكائنات البشرية ( وليس الأعضاء البشرية كما هو ألان) فيمسك ذلك النخاس بمعصم إحدى الكواعب ويقوم بتمشيتها بين الناظرين ليروا مفاتنها عن كثب ثم يبين محاسنها الأخرى ليخبر أنها تجيد قول الشعر والغناء والمُلَح وكل فنون المتعة الحلال ! فتكون هذه القينة محلاً لرغبات المتبضعين وهم خليط من الأغنياء والعلماء والفقهاء والجنود الميسورين . فيتماسكون فيها وأخيراً ترسو على من يدفع الثمن الأغلى فيها .فيصطحبها هذا المحظوظ إلى منزلهِ مع بقية مشترياته من الخضار واللحم والحبوب . ويهيئ منزله لوطء هذه البضاعة البشرية . فلا يوجد حرجٌ ديني أو عرفي يمنعه من ذلك . بل إن جميع النصوص الدينية تبيحه أو تحث عليه قال تعالى (( ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )) النساء 25 ، فبما إن مهور الحرائر ( المحصنات) عالية فلا باس من نكح الإماء اللواتي كانت أثمانهن متدنية على ما يبدو من النص ولا يشفع لهن في مسالة بيعهن وشرائهن كونهن مؤمنات أو غير ذلك !!
المشهد الأخير:
الزمان : منذ سقوط بغداد سنة 656 هجرية وحتى ألان، المكان : بقايا الإمبراطورية السابقة ، الحدث : بعد أن كان الفاتحون يتمتعون بتملك نساء وغلمان الشعوب المقهورة أصبحوا هم أنفسهم عرضة للسبي والغزو .فغابت عن مطولات الفقه والأصول عندهم مصطلحات وأبواب فقهية خاصة تتعلق بملك اليمين ( التسمية الشرعية للاستعباد ) ونسوا أو تناسوا إحكاماً فقهية تتعلق بهذا الجانب طغت على تشريعاتهم فترة طويلة من الزمن.
عرض وتحليل:
ليس العرض الآنف لهذه المشاهد التاريخية الثلاثة يستهدف إثارة المشاعر أو التنكيل بالذات . إنما هو محاولة لقراءة جديدة لعناصر الحكم الشرعي الذي تقوم عليه الحياة الدينية والاجتماعية لدى المسلمين . فالحكم الشرعي في النظرية الإسلامية يقوم على دعامتين رئيستين هما : حكم الشارع في القضية أي النص المقدس أو ما يفهم منه وهو الطرف الثابت وجماعة المكلفين وهو الطرف المتغير . النص المقدّس : لم يفّرق الفقيه المسلم كثيراً بين حكم شرعي تصدى لأمور العقيدة كالإلهيات والغيبيات وبين الحكم الشرعي الذي تصدى لأفعال المكلفين التي هي على كل حال قضايا زمنية ويومية تتشكل بتأثيرات الواقع المعاش على مر العصور . أي إن ذلك الفقيه خلط وبصورة مربكة بين الشرائع والتشريعات . فأصبح النص الفقهي المقدس عنده معلقا خارج مسيرة الزمن وأحداثه ، صالحا لكل الأزمان متخذا مكانة محصنة بجنب النص العقائدي المقدس . وكان المفروض أن يختص الأخير منهما بهذه المنزلة السرمدية فقط فالأول يعالج ما هو مطلق وثابت والثاني ما هو نسبي ومتغير .. ولا يمكن لنا أن نعتبر الفقيه المسلم غير معذور إذا ما عرفنا إن أساس البناء الفقهي في الإسلام يقوم على أن (( حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة )) والنص الحكمي الذي نزل في ماعز والغامدية وبن أبي بلتعة وغيرهم من الصحابة نص شامل قابل للتطبيق والتعميم على أناس يعيشون في الألفية الثالثة لان القاعدة الكبرى في أصول الفقه والتي بني عليها استنباط الحكم الشرعي في الإسلام تقول (( إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فبقيت أسباب النزول التي تذكر في كتب الفقه والتفسير تدرج لا للتدليل على خصوصية الواقعة وحاجتها إلى حكم خاص وإنما لاستلال معالم خاصة بها تصلح أن تكون مناطا لمقايسة أخرى لإحداث لاحقة في أزمان لاحقة وجرها قسرا إلى ساحة المحكوم به . فخرج الحدث اليومي المرهون بشخوصه المتحركة من صفته اليومية المتغيرة إلى صفته اللا زمنية ( الإلهية ) التي لا تقل شانا عن قداسة الحكم نفسه وأصبح تاريخ الفقه الإسلامي تاريخا للحكم المقدس وبجنبه الحدث المقدس الذي اكتسب قداسته من جعله عاماً وصالحاً للمقايسة دائما ً . ولكن من غير المنصف إن نعتقد إن المفكر الإسلامي لم يفطن إلى هذا التكبيل للفكرة والقدرة . فقد رأينا ومنذ زمن مبكر محاولات جريئة لنسف بعض البناء الفقهي الذي سلّم المسلمون بحرمةِ نقبهِ أو التقرب من حافاتهِ المقدسةِ ولعل أول تلك المحاولات هو ما قام به الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما أمر بتحريم المتعة فقال (( متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا انهي عنهما )) أي إن عمر رأى أن الظروف الموضوعية التي كانت متوفرة للمتعة في زمن الرسول (ص) لم تعد كذلك في زمنه ، غير إن تلك المحاولات لم تأخذ طابعا علميا منهجياً وإنما جاءت كشطحات فقهية عرضت مرتكبيها للانتقاد وربما للتكفير والاتهام بالابتداع بالدين . وبقيت تسير باتجاه واحد غالبا وهو الاتجاه لتحريم الحلال ولم تتجرأ على القول بتحليل الحرام مما نتج عنه زيادة في التشديد على الناس لان تحليل الحلال بنظر أولئك المتجرئين أيضا قد ينظر إليه على انه يدخل في باب من أبواب الزهد أو التقوى والورع بخلاف تحليل المحرم!! وهكذا ظلت تلك المحاولات محدودة التأثير مع حرص أصحابها على عدم التصريح بفشل النص الوارد في قضية معينة في أن يكون نصا صالحا لكل القضايا المشابهة دائما . مع انه لا يوجد في الكون قضيتان متشابهتان إطلاقا إذا ما أخذنا بالحسبان العوامل الإنسانية الذاتية والظروف الموضوعية المحيطة بكل قضية , لكن الباحثين من خارج الدوامة الإسلامية تمكنوا من رصد الخلل الناجم من الجمود والابتسار الضارب في النظام الفقهي الإسلامي والذي انسحب على بقية الأنظمة ، يقول المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون (( وعادت نظم القرآن التي كانت عنوان احتياجات العرب في زمن محمد لا تكون هكذا بعد بضعة قرون ، والقرآن إذا كان دستوراً دينياً ومدنياً وسياسياً في أن واحد وكان لا يتبدل بسبب مصدره الإلهي تعذر تعديل إحكامه الأساسية )) 1 انتهى الاقتباس وقد ينخدع الباحث بكثرة المجتهدين واضطراد مذاهبهم الفقهية . ليتوهم إن تلك المذاهب واجتهادات أصحابها كانت تضع أرائها في موضع النديّة والنقض والمجابهة إزاء النص الأصلي . لكن الحقيقية إن مسحاً ببلوغرافياً للكتب الفقهية والرسائل العملية المتشابهة جداً في أحكامها إلا ما ندر . يؤكد إن تلك الاجتهادات لا تمثل سوى تدويرا لمغزى النص أو صرفه إلى مناحي واتجاهات مقاربة دون المساس بصلبه . بل إن الفقيه تعسف أكثر من ذلك فاخذ يبحث عن حوادث عابرة في حياة الصحابة والتابعين وتابعيهم للتدليل على اشتمال حكمه الجديد على روح النص الأصلي واستيفائه للشرعية .
جماعة المكلفين : من الطبيعي أن لا تكون المعادلة المتكونة من عنصرية احدهما على الأقل متغير ، ثابتة . ومع إن المعادلة التشريعية تحتوي في أساسها على ثلاثة عناصر كبرى وهي : الحكم ، المحكوم عليه ، المحكوم فيه ، ويشكل العنصران الأخيران فيها بالتأكيد عناصر متغيرة لان الإنسان ( المحكوم عليه) وقضيته التي يعاني منها (المحكوم فيه) هي عناصر خاصة وذاتية منبثقة من فردانية الأشخاص وحدثانية الوقائع . إلا إن الفقيه الإسلامي قام بتنحية هذه الجوانب الفعالة في صيرورة الأمر والتغاضي عنها لحساب قداسة منتزعة قسرا أو توهماً لنصوص كان الشارع المقدس يحركها أصلاً بحسب الحاجة قال تعالى (( وما ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )) البقرة 106 ، بل أن القران نفسه كان قائما على البناء التدريجي في تشييد الإحكام من خلال تنجيمه على مدى ثلاث وعشرين سنة . ولو أمكننا أن نتخيل أن القران لا يزال يتـنزل علينا كل يوم لا مكننا أن نتخيل أيضا ً مئات الإحكام الجديدة التي ربما نقضت إحكاماً سابقة لا زلنا نعتقد أنها نهائية وغير قابلة للنقض والتمييز . كيف لا وقد رأينا بعض المجتهدين يقومون في بعض الأحيان – على قلتها- بنقض بعض الإحكام وتغييرها كليا بدواعي الظروف والحاجة فقد اصدر أية الله العظمى الشيخ صالح الطائي مؤخرا فتوى تنص على عدم شمول الطائرة والسيارة بحرمة التظليل في إحرام الحج والعمرة "2" وقد ختم تلك الفتوى العصرية بقوله (( سيتلقى أولوا المعرفة هذه الفتوى بالقبول الحسن لما فيها من تخفيف عن المؤمنين وإزاحة للعناء الذي يلاقونه كل عام ولزوم دفع العسر والمشقة )) ومع كل الذرائع الشرعية والعملية التي أوردها المجتهد لتبرير هذه الفتوى إلا إننا نرى انه كان متفائلا أكثر من اللازم في إمكانية تقبل المؤمنين لها بقبول حسن . لأننا لا زلنا نتذكر العراقيل والصعوبات الجمة التي واجهتها فتوى اقل خطورة وجرأة أطلقها السيد محمد صادق الصدر من قبل توجب إقامة صلاة الجمعة في عهده رغم أنها لم تكن في حقيقتها سوى ايقاض لشعيرة نائمة أو متروكة وليس اختراعا لشعيرة جديدة وجرى الاعتراض عليها من عموم الجمهور واغلب المراجع الآخرين بحجة عدم وجود الفقيه المبسوط اليد كشرط أساسي لإقامتها والحق أننا كنا نتمنى استدامة هذا الالتزام الأعمى بما يسمى بالشروط الفقهية لكن أولئك المعترضون لم يحافظوا على الوفاء بالتزامهم الفقهي وهاهم يقيمونها ألان ويحثون أتباعهم على أقامتها ليس بسبب تحصيل شروط فقهية جديدة وإنما بسبب تغير في الواقع الاجتماعي والسياسي فالكل يعلم أن الجهات المبسوطة اليد في العراق ألان هي جهات أخرى غير الفقيه الجامع للشرائط وان أهل الحل والعقد في العراق هم أهل الدبابات و حاملات الطائرات لا غير وبالتالي فان دواعي تغيير الحكم أو تفعليه لم تكن دواعي شرعية البتة وإنما كانت دواعي سياسية واجتماعية وهو أمر طبيعي نرجو أن يجعل الفقهاء والمجتهدون منه منهجاً مختارا وليس اضطرارا قسرياً تجبرهم عليه الظروف . إذن فان العناصر المتغيرة في المعادلة الشرعية كثيرا ما تكون دالة على تبويب أفعال المكلفين ضمن جداول الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة والندب . أكثر من دلالة الحكم الأصلي المقدس نفسه وهو الأمر الذي يغفله أو يتغافل عنه كثير من الفقهاء . ولغرض تجلية هذه الحقيقة فان اتخاذ قضية الرق ( ملك اليمين ) أنموذجاً معملياً لها سوف يكون عملاً مفيداً ومثمراً في هذا المجال . فمن خلال استعراض المشاهد المعروضة في مقدمة الدراسة يتأكد لنا إن المسلمين لم يتطوعوا من ذواتهم للتخلي عن تملك الناس واستعبادهم واتخاذهم وسيلة من وسائل الخدمة والمتعة .نتيجة لترقي المشاعر الإنسانية النبيلة لديهم أو استشعارهم للمهانة والخزي الذي يلحق بالوجود الإنساني برمته من إقرار نظام العبودية والرق ولم يخبرنا التاريخ إن احد الفقهاء المعاصرين لعصر العبيد قد أفتى بتحريمه وإنما الذي أجبرهم على إن يطووا عنه كشحاً ويسدلوا دونه سترا هو التغيير في معطيات الواقع السياسي والاجتماعي للأمة . وقد سار الفقهاء في العصر الحديث على خطى إسلافهم لذا وجدنا أفضل التبريرات لديهم التي تفسر عدم خوضهم باستفاضة واستطراد في أحكام ملك اليمين تنحصر في عدم وجود العبيد في المجتمع يقول السيد الصدر في باب النكاح (( والكلام في كتاب النكاح لدى الفقهاء منحصر بالقسم الأول من هذين القسمين –يعني العقد وملك اليمين – دون القسم الثاني الذي يؤجل ذكره إلى إحكام العبيد في الفقه – وهي محذوفة عادة من الفقه المعاصر – لعدم وجود العبيد في المجتمع ، فيكون ذكرهم منافياً لكون الرسالة عملية أي تمت إلى الحاجة الفعلية للمجتمع . لكن ذكرهم يكون دعماً لفكرة استيعاب أحكام الإسلام لكل الحقول فانه ما من واقعة إلا ولها حكم سواء كانت هذه الواقعة موجودة فعلا أم لا )) "3 " انتهى الاقتباس إذ الذي يشغل بال الفقيه المسلم ويستوعب جهوده هو إثبات الجانب القداسي المستديم للحكم – ما من واقعة إلا ولها حكم – فلا أهمية للواقعة إلا بقدر انطلاء الحكم على إرهاصاتها . فيؤكد لنا الفقيه الخطة الاستباقية للحكم على الوقائع التي حدثت فيما مضى أو التي ستحدث في المستقبل فالحكم عنده واحد وان كانت الحوادث متعددة . لكن هذا الفقيه لم يلتزم بأصول تلك الخطة التي قررها على نفسه عندما يضطر كثيراً للتخلي عن الخوض في مناقشة أحكام وقائع حادثة ليس استجابة لتحصيلات شريعة مدرسية أو اجتهادية وإنما رضوخاً لتغيرات تاريخية أملاها الزمن كما رأينا في قضية صلاة الجمعة مثلا . ومن المؤسف أن نقول إننا كنا نتوقع من مجتهد راديكالي مجدد كالسيد الصدر أن ينبذ كل ما من شانه إلحاق الخزي والذل بالكرامة البشرية وان يصرح بتحريم الاسترقاق والعبودية دون مواربة فكان إصراره أو انسياقه بتثبيت وشرعنة ذلك النظام المقيت – و لو فقهيا – مخيباً للآمال " 4" إن هذا العجز لدى الفقهاء عن المواكبة والتحديث لم يكن ناجماً عن الفقر في أدواتهم العلمية في الاستلال والاستنباط وإنما هو ناجم عن فشل في الأدوات التعليمية وخطل في الخطة الفقهية في نشدان مراد الله ،فهل كانت خطة الشارع المقدس في تشييد البناء الفقهي في القران الكريم هي نفسها الخطة التي سار عليها الفقهاء ؟؟ مرة أخرى يؤكد لنا القرآن الفرق الكبير بين الخطتين ففي قضية تحريم الخمر مثلاً لم يأت القران بالتحريم بصورة نهائية دفعة واحدة وانما تدرج من مرحلة التنبيه على مساوئ الخمر إذا ما قورنت بمنافعها (( ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما )) البقرة 219، إلى مرحلة الأمر بالكف عن السكر أثناء الصلاة (( يا أيها الذين امنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى)) النساء 43 ، وأخيراً الأمر القاطع بتحريمها (( يا أيها الذين امنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون )) المائدة 90 ، ليكون ذلك دليلا على منهجية التدرج من الإباحة إلى الكراهة إلى التحريم وربما مفتاحاً لتدرج عكسي من التحريم إلى الإباحة بناء على مقتضيات الاستقراء المنطقي . وبصورة أخرى نقول إن القرآن وضع خطة للفقيه كان عليها أن يحتذيها تقوم على مسك خيوط وخطوط الحكم منذ البداية والسير فيها حتى نهاية المطاف تلك النهاية التي قد تكون مختلفة عن البداية ولكنها ليست غريبة عنها لكن الفقيه لم يبرح تلك البدايات وآثر عدم إكمال الشوط فبقيت جهوده عاجزة عن الظفر بعناصر الجدة والواقعية والموائمة . وعوداً على استغلال قضية الرق كمثل مقبول للتدليل على ذلك فإننا نعتقد إن القرآن لو لم يكن قد توقف النزول في السنة الحادية عشرة للهجرة لأمكننا أن نراه يأتي بإحكام قاطعة بتحريم الرق والاستعباد. لان القران قد شرع فعلاً في هذا المشروع حين قام بوضع الترتيبات العملية للقضاء على الاستعباد وقد جاءت تلك الترتيبات على الأغلب كعقوبات أو شرط جزائية ( كفارات ) عن ذنوب معينة أهمها ما يلي :
1. كفارة إفطار يوم من شهر رمضان عمداً وبدون عذر : عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكين .
2. كفارة الإفطار على حرام كالخمر ولحم الخنزير والزنا : الجمع بين العتق وإطعام ستين مسكيناً 3. كفارة الايلاء وكفارة اليمين وكفارة النذر تكون بالترتيب والتخيير عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو صيام ثلاثة أيام .
4. كفارة قتل المؤمن عمداً ظلماً : الجمع ما بين عتق الرقبة وصيام الشهرين وإطعام ستين مسكيناً 5. كفارة القتل الخطأ وكفارة الظهار : عتق رقبة فان عجز فصيام شهرين فان عجز فإطعام ستين مسكيناً وهذه الكفارات ليست اجتهادات فقهية وانما كفارات ثابتة بالنص القرآني المقدس وإذا ما جمعناها مع الأحاديث والأفعال المنقولة عن الرسول (ص) والسلف والتي تحبذ تحرير البشر وتحث عليه فإنها تكون تمهيدا عمليا لنشر ثقافة تحرير البشر واحترام إنسانيتهم وإحداث الانقلاب الكلي على التشريعات والأعراف والتي تحلل أو تجيز الاستعباد والاسترقاق ومن هنا يظهر قصور وتقصير الفقيه الإسلامي عن الإمساك بالخيوط التي مكنه الشارع المقدس منها والاستفادة منها لإعلان الثورة على القيم والأحكام البالية . وقد يعترض احدهم على ما تقدم فيقول إن الالتزام به يعني المطالبة بنقض كل الإحكام الثابتة بالنصوص المقدسة . ويعني كذلك إنكار مبدأ إكمال الدين وإتمام النعمة التي قررها الله تعالى الله تعالى بقوله( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )) المائدة 3 ، فنقول إننا إذا تنازلنا وقبلنا بهذا الفهم المبتور للآية . فانه يتحتم علينا كذلك عدم الاعتراف بأي جهد فقهي قام به فقهاء الأمة لأنه سوف يكون جهدا مترفاً وفائضاً ولا حاجة له مع إكمال الدين وإتمام النعمة. أن مطالبتنا بتحريك العقل الفقهي الإسلامي وإعادة صياغته لا تعني بأي حال من الأحوال قلب الحقائق كتحويل الرذائل والمنكرات التي ثبت قبحها الذاتي إلى محللات أو العكس فان ذلك أمر ناشز وشنيع لا يقره العقل السليم .

ملاحظة : كانت النماذج المتخذة في هذه الدراسة من الفقه الاسلامي الشيعي وهو فقه يدّعي فتح باب الاجتهاد على مصراعيه وقد كانت هذه حاله كما رأينا ، فما بالك بفقه أُغلق فيه باب الاجتهاد منذ قرون ، أرجو التأمل في ذلك بجد ...

الهوامش:
1. غوستاف لوبون .حضارة العرب .ترجمة عادل زعيتر /مطبعة عيسى البابي وشركاه الصفحة 608
2. آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي –البيان رقم 51 – فتوى العصر .الصادر عن النجف الاشرف في الأول من ذي القعدة 1425 هجرية
3. آية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر /منهج الصالحين – مطبعة الآداب النجف الاشرف الجزء الرابع صفحة 8 –كتاب النكاح
4. نفس المصدر السابق : الجزء الرابع صفحة 135 حيث افرد فيه السيد الصدر كتابا كاملا لأحكام الرق. وكلن السيد بذكائه اللماح وذوقه البريء قام بتغيير التسمية فاسماه كتاب العتق للتخفيف من وطأة العنوان إذا ما سمي كتاب الرق وفي ذلك إشارة خفية وجميلة.

بركات محي الدين
مفكر وباحث عراقي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الغارديان تكشف نقاط ضعف في استراتيجية الحرب الإسرائيلية


.. تراجع مؤشر الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين للمرة الثانية




.. حركة نزوح عكسية للغزيين من رفح


.. مصر تعتزم التدخل لدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام -الع




.. ديفيد كاميرون: بريطانيا لا تعتزم متابعة وقف بيع الأسلحة لإسر