الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية الأيدلوجية : أيدلوجية الرأسمالية المعولمة

عمار عكاش

2007 / 10 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


نهاية الأيدلوجية : أيدلوجية الرأسمالية المعولمة

1. تعريف.
2. نشوء الأيدلوجية ( الرأسمالية و الحداثة ).
3. نهاية الأيدلوجية و ما بعد الحداثة ( الأسس الفلسـفية – التوظيف السياسي ).
4. نهــاية الأيدلوجية و الفرد في مجتمع الاستهلاك .
تـستند مناقشتنا هذه إلى معنيين للأيدلوجية ideology :
1. المعنى الأول الذي تتبناه الفلسفة كتعريف عام : و بموجبه تكون الأيدلوجية رؤية نـسقية شاملة للحقيقة الاجتماعية ككل .
2. المعنى الثاني : يعرّف الأيدلوجية باعتبارها رؤية الطبقات المسيطرة للمجتمع و التاريخ و التي تعبر عن مصالحها و تعكس رؤيتها ، و تحاول عبر سيطرتها على مؤسسات المجتمع ( الدين – التعليم – الإعلام ) نشرها ، لتتـشربها الطبقات الكادحة ، لذا فهي وعي استلابي زائف بالواقع .( مـاركس Marx- مانهايم Manheim ) .
1. نشوء الأيدلوجية ( الرأسمالية و الحداثة ):
هناك شبه إجماع على أن نشوء الأيدلوجية بالمعنى المعاصر للكلمة - كرؤية نسقية systemic للعالم و الحقيقة الاجتماعية - ارتبط بصعود الرأسمالية capitalism كنمط جديد في الإنتاج ترافق مع مساحة ديمقراطية أوسع ، و انتقال السلطة السياسية من الكنيسة إلى الأحزاب السياسية ، و تمفصل طبقات اجتماعية جديدة على أسس اقتصادية بدلاً من الأسس الطائفية و الإثنية .
إن هذه التغييرات تتيح لنا فهم الأسس المجتمعية و الاقتصادية لظهور الأيدلوجية غير أن الوقوف على الأسس المعرفية لظاهرة الأيدلوجية لا يمكن لنا دون ربطها بالحداثة الأوربية modernity:
إن الحداثة كظاهرة اجتماعية ثقافية بدأت منذ مرحلة التنوير ، و ترسّخت مع صعود الرأسمالية معتمدةً ثالوثاً هو : 1 – سلطة العقل mentality 2 – فكرة النظام في العالم system 3 – العلم science .
و بموجب ذلك كان الإيمان بإمكانية تحقيق التقدم progress البشري المطرد من خلال توظيف العقل في السيطرة على العالم المادي( الطبيعة ) عبر العلم و السيطرة العالم الاجتماعي ( كونت Comte – ماركس Marx) بإضفاء النظام عليه أيضاً عبر العلم ، فالعالم الحقيقي أصبح عالم الـبشر المُعاش ، و فيه تكمن الحقائق بعد أن كانت الحقيقة في العصور الوسطى medieval ages تكمن في العالم الآخر و تتم مقاربتها عبر الفلسفة و الدين ، و لا يتأتّى للإنسان أن يعيشها إلا بعد موته .
في هذا السياق تأتي الأيدلوجية كمحـاولة عقـلانيـة لتفسير العالم بل و تغييره ( ماركس ) من خلال توجيه السلوك البشري نحو أساليب معينة في الفعل action لتحقيق غايات سياسية محددة تقود الإنسان للتقدم المطرد، هذه الصيغة وجدت تعبيرها الأمثل في كومونة باريس و انتفاضات العمال في أوربة ، و ثورة أكتوبر الاشتراكية ، فهذه الثورات كان مَعينُها الفكري هو الأيدلوجية ، و يمكن لنا أن نقول أيضاً أن النزعة الإنسانية humanism في الفلسفة التي تجعل من الإنسان محورها و غايتها و تؤمن بدوره بصناعة التاريخ و المعرفة وثيقة الصلة بنشوء الأيدلوجية بالترابط مع الحداثة .
2. نهاية الأيدلوجية و ما بعد الحداثة ( الأسس الفلسفية – التوظيف السياسي ):
إن الإخفاقات المتعاقبة التي مُنيت بها حركات التحرر ، و انكفاء المنظومة الاشتراكية ، و فشل الثورة الطلابية في أواخر الستينات في خلق أي تغيير جوهري، كانت إيذاناً ببداية مرحلة مادية جديدة في العالم هي مرحلة العولمة globalization، و إيذاناً بالانتقال إلى حقبة ما بعد الحداثة post-modernityكأسلوب لرؤية العالم و نمط في التفكير .
و تعود بدايات تبلور فكر ما بعد الحداثة إلى أوائل السبعينات في فرنسة، فالإخفاقات المتعاقبة التي مُنِي بها الحزب الشيوعي الفرنسي، و نجاح الرأسمالية الكينزية Keynesian capitalism في إدارة الحلف العالمي ضد المعسكر الاشتراكي و تطويقه، ولدا جواً من اليأس و التشكك و التشويش، دفع لتقويض الأسس الفلسفية للحداثة ، فبدأت الدعوة لفصل الفلسفة عن السياسية باعتبارها غير ذات جدوى، و الدعوة للابتعاد عن النظريات الشمولية ( السرديات الكبرى grand narratives) كالهيغلية و الماركسية باعتبارها فشلت في الكشف عن حقيقة الحياة الاجتماعية، و بالتالي فقدت مشروعيتها في توجيه السلوك الإنساني، و امتد الأمر إلى سلب الأيدلوجية أساسها الموضوعي أو مبرر وجودها و هو الحقيقة الاجتماعية الموضوعية، ففلاسفة ما بعد الحداثة يرون بعدم وجود حقيقة موضوعية objective truth بل حقيقة مجزأة و متعددة و ذات طابع فردي .
هذا من حيث الأساس الأبستيمولوجي لما بعد الحداثة ، أما في المجال السياسي تبلغ هذه الرُؤى ذروتها في أطروحة نهاية الأيدلوجية لفوكوياما Fokoyama، و عموماً يمكن أن نقول بهذا الصدد بإن جُلّ النظريات السياسة التي تًطرح حالياً هي تفريعات سياسية لنظرية ما بعد الحداثة، و يمكن تفكيك مفاهيمها، و فهم أسسها النظرية و المعرفية استناداً إلى تحليلات منظري ما بعد الحداثة في الحقل الفلسفي و الثقافي و الفني و المعماري.
و لعل التحول الأبرز يكمن في طبيعة العلاقة بين البشر و النظر للفرد ( الذات )، ففي العصر السابق كانت فكرة الإنـسان الواحد مطروحة، و كان الميل العام يتجه نحو البحث عن القواسم المشتركة بين البشر الذي بلغ تعبيره الأقوى في مقترحات الفكر الاشتراكي حينها .
غير أن بروز مشاكل القوميات سواءً في العالم المتقدم و العالم الثالث، و فشل مشاريع الغرب في حل تخلّف العالم الثالث ( سواء بالتمدين civilization عبر الاستعمار colonialism أو التحديث modernization عبر احتذاء النموذج الغربي westernization )، قاد منظري ما بعد الحداثة انسجاماً مع التحول العام في العالم، للتأكيد الشديد على فكرة الاختلاف بين الأفراد و الجماعات و الثقافات بغرض محاربة العنصرية racism.
لكن هذا التأكيد الشديد على الاختلاف تُرجِم على أرض الواقع بتفجير فيروس الهويات identity، و إحياء بنى تعود إلى ما قبل الدولة القومية ( العشيرة – الـطائفة – الإثنيات ) و ليـس هذا الأمر حـكراً على العالم الثالث، بل يـشمل العالم المتقدم من خلال دعـم الـنزعة الجـماعوية communautarisme الثقافوية تحـت مسمى التـنوع الثقافي الذي يجعل من الوعي مجالاً مستباحاً لنيران الحقد و التعصب الديني و الإثـني، فشهدنا مجازر البلقان و مجازر رواندا و مجازر العراق اليومية المتواصلة ....
فالمسار العملي لأطروحة نهاية الأيدلوجية يتجه نحو تطويق الحركة السياسية الفاعلة باعتبار الأيدلوجية وسيلتها في رؤية العالم و القبض على المحور الناظم للعالم و قوانينه ما وراء الأحداث المبعثرة و الوقائع، و في نفس الوقت تعني استلاباً في الوعي مما يقود لحرف وعي الإنسان لذاته كشاغل لموقع طبقي محدد إلى وعي لوجوده كعنصر في مجموعة طائفية أو إثنية أو قومية أو مجرد مجموعة فرعية ( شلة جريمة أو هبيز في نسخة موضة مشوهة و مجردة من محتواها التمرّدي )، أو فرد متمركز على ذاته في عالمه الخاص.
3. نهاية الأيدلوجية و الفرد في مجتمع الاستهلاك consumer society:
كان هناك جدلية أساسية في فلسفة التنوير enlightening و الحداثة تتعلق بالعلاقة بين الفرد و المجتمع بوصفها كيانين مترابطين، كل منهما يؤثر في الآخر و تنوعت الإجابات المقدمة حول هذه الجدلية التي كـانت تدور في نهاية المطاف حول قدرة البـشر على التأثير في عالمهم.
هذه الجدلية كمـقولة فلسفية سقطت من دفاتر فلاسفة ما بعد الحداثة، فالبشر ذرات مبعثرة تسوقها رياح التغيّر حيثما تشاء، لقد فقد الفرد مركزيته و لم يعد مصدر المعنى ( موت الذات في الفلسفة البنيوية structuralism ) كما كان في عصر التنوير.
إن القول بموت الذات يعني عجز الفرد عن التأثير في محيطه الاجتماعي، و هذا الرأي يستمد شرعيته مما عاشه الإنسان الغربي من استلاب alienation في عهد التصنيع و هيمنة التقنية في ظل دولة الرفاهwelfare state حيث الحركة المتسارعة للمجتمع تقود لفقدان الثقة بالمستقبل و المحيط، و يكون الفرد فيها مدعواً لحل مشاكله من خلال حلول وضعية تتكفل بها العقلانية التقنية المهيمنة على المجتمع، و مدعواً لتحقيق ذاته من خلال عالم الـسلعة و عالم الشيء .
بلغ هذا الأمر ذروته في مرحلة الرأسمالية المعولمة فالعالم فوضى، و المجتمع نظم فرعية مستقلة متـناقضة ما من جامع كلي يـوحدها. يتمعق هنا شعور الفرد بالعجز عن التغيير أو التأثير في المحيط (و سمته الفوضى وفقاً لكتاب ما بعد الحداثة) مما يقود لتمـركز الفرد على ذاته، ويوغل المرء في فردانيته بصورتها النرجسية التي تعني عزلة الفرد عن أية علاقات اجتماعية فعليّة و الدوران في عوالمه الخاصة، ليصبح الإعلام هو النمط الاتصالي الوحيد السائد بين الأفراد، و لعل هذا ما دفع عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس Jorgen Habermas لتوجيه الدعوة لبناء عقل تواصلي ( communicative mind ) بدل العقل التقني الذي استلب الإنسان من آدميته .
و في خضم هذه الفوضى و هذه النظم المتناقضة المفككة المشتغلة ذاتياً، يبرز نظام مرجعي ضابط للفوضى و هو السوق market، فالسوق هو الإله الميتافيزيقي الجديد، و هو الحقيقة الوحيدة في عصر الرأسمالية المعولمة بعد أن غابت الحقيقة الموضوعية.
لتوضيح هذه النقطة يجب العودة إلى البدايات إلى الرأسمالية الصاعدة و بدايات ظهور فكرة العقل ( و هنا سأعود للأس الاقتصادي لفكر الحداثة معتمداً على المقاربة الماركسية )، فحينها كانت العقلانية تعني المبادهة الاقتصادية الخلاقة للفرد في السوق؛ السوق الحر غير الخاضع للتضبيط، و كانت هذه الصيغة مترجمة في ديمقراطية المالكين الانتخابية، و مع الحراك الاجتماعي التالي للجماهير العاملة المسحوقة تحت وطأة الصناعة المتسارعة و لهاث رأس المال نحو التضخم و التمركز و نشوء الحركات النقابية الثورية، بدأ التعقيل يدخل لنظام السوق و عرف الغرب منجزات العقل بمعناها التقدمي ( ديمقراطية – حقوق إنسان – إعلام حر )، و بلغ الأمر ذروته مع قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917، و بدأت هنا الإجراءات الدفاعية من قبل معسكر الرأسماليين لمجابهة معسكر العمل ، و خضعت قوى السوق للتعقيل من خلال الرأسمالية الكينزية .... و في مرحلة العولمة يستعيد السوق مكانته السابقة كحقيقة كلية كإله ميتافيزيقي جديد بعد أن سقطت سلطة العقل، و بات الإنسان مُسلِّماً بعدم وجود عقلانية حاكمة لعالمه بل فوضى ناظمها السوق، و بعبارة أخرى كانت العلاقة بين السوق و التضبيط ( أي التعقيل ) خاضعة دوماً لتوزع القوى بين معسكر رأس المال و معسكر العمل، فالرأسمالية تحمل نزوعاً بنيوياً منذ صعودها لسيادة السوق الوحشية المنفلتة من الضوابط (في هذه النقطة أشارك الدكتور سمير أمين رأيه في كتابه مات بعد الرأسمالية المتهالكة) .
و بهذه السيادة الوحشية للسوق يصبح جنون الاستهلاك ممر السيطرة على الفرد المنكفئ على ذاته كما أوضحنا، فيصبح التركيز في الإنتاج على التنويع في أشكال السلعة ليختار الفرد بينها، و يكـون هذا الاختيار محكوماً بنمط الحياة الذي تعكسه السلعة لا بقيمتها الاستعمالية، و هذا يتطلب آلة إعلامية شاملة في السينما و الفضائيات لترويج صرعات الموضة و جنون الاستهلاك و اللهاث الوهمي لتحقيق الذات في عالم السلعة، لا سيما أن النظام الإعلامي العولمي هو نظام الصورة لغة العصر الجديد، في ظل نظام الصورة تزداد القدرة على إملاء توجهات محددة على الفرد لا سيما أن الصورة تستبيح العقل و لا تمنح المتلقي فرصته للتمحيص و التردد النقدي كما هو الحال مع القراءة آخذين بعين الاعتبار أن متلقي العصر الحالي فرد مهزوز نفسياً معزول اجتماعياً في ظل ماكينة سريعة تطحنه مجتمعياً و تطحنه اقتصادياً ليغدو التلفاز فسحته الترفيهية و التواصلية المتاحة، و تكون المحصلة مزيداً من التقوقع على الذات و إيغالاً في نرجسية تحمل انفصالاً عن العلاقات الاجتماعية الخلاقة، فيتبعثر الأفراد في خضم فوضى السوق، و يفقدون المعنى meaning، و ترتفع حالات الانتحار بينهم، و يصبح الاكتئاب مرض العصر أو موضة العصر إذا شئتم .
ختاماً نقول إن البشرية في ظل الرأسمالية المعولمة مَدعُوّة للدخول في نفق مظلم نفق العنصرية و الطائفية و الإثنية، و نرجسية الفرد، و تبلد المشاعر و العواطف، و أطروحة نهاية الأيدلوجية بمثابة سلْب لأدوات الرؤية و الخروج من هذا النفق، و(( إذا كانت البشرية عانت من ويلات عديدة ارتكبت باسم العقل، فذلك لا يعني التخلي عن العقل و عن الإنجازات التي حققها الإنسان عبر العقل )) (( هابرماس ))، فالمسار الحالي للعالم باتجاهين : بربرية و فوضى و همجية أو ...؟ .....
عمار عكاش – إجازة في علم الاجتماع من جامعة حلب[email protected]
المراجع :
1. بيرك، باري : نظريات ما بعد الحداثة. تر: حارث حسن و باسم خريسان، (مجلة المعرفة، وزارة الثقافة : دمشق: آب 2002)، العدد : 467 .
2. جودت، رضوان: المجتمع مابعد الحداثي - سوسيولوجيا السوق والموضة : http://www.iraqcp.org
3. أمين : د.سمير : ما بعد الرأسمالية المتهالكة ، تر : د. فهمية شرف الدين و سناء أبو شقرا، ط1، ( دار الفارابي ، بيروت : 2003 ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف استعدت إسرائيل للقضاء على حزب الله؟


.. شهداء وجرحى بغارة إسرائيلية على مسجد يؤوي نازحين في دير البل




.. مظاهرات في مدن ألمانية عدة تأييدا لفلسطين ولبنان


.. شهداء ومصابون جراء قصف الاحتلال منازل مواطنين في بيت لاهيا ش




.. مظاهرة في العاصمة البريطانية لندن نصرة لغزة ولبنان