الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسس الفلسفية لليبرالية

عصام عبدالله

2007 / 10 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


أثيرت العديد من الشكوك والتحفظات حول "التسامح" منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، وتردد صداها بشكل قوى فى الموسوعة الفلسفية لـ " لالاند" الذى ناقش مفهوم التسامح مناقشة مستفيضة ، ولم يقبل فى النهاية هذا اللفظ إلا على مضض ، ومع كثير من التسامح ، مؤكداً ضرورة أن يعمد الفيلسوف عندما يريد استعماله إلى التنبيه بوضوح إلى المعنى الذى يريده منه .. وإليك بعض مفارقات لفظة "التسامح" كما وردت فى الموسوعة : كلمة "تسامح" تتضمن فى لساننا فكرة اللياقة ، وأحياناً الشفقة ، وأحياناً اللامبالاة .
كلمة "تسامح" تتضمن الازدراء والتعالى بل والطغيان أيضاً ، ويبدو أن فى الأمر شيئاً من الازدراء حين نقول لشخص ما إننا (نتسامح) فيما يفكر به . فهذا معناه "أن ما تفكر به لا قيمة له ؛ لكننى أوافق على إغماض عينى" .
كلمة تسامح ارتدت معنى دونياً ، ومهيناً تقريباً للكرامة الإنسانية . وكما قال "اميل بوترو" : "لا أحب كلمة تسامح هذه ، فلنتحدث عن الاحترام والتواد والحب .
أن التسامح ليس مثالاً ، وليس حداً أقصى ، إنه حد أدنى لأنه يرتفع بالإنسان إلى مستوى الاحترام والمودة . فالتسامح الذى يكمن فى ترك الحرية لكل فرد للتعبير عن آرائه ، حتى وإن كنا لا نشاطره إياها ، ينبع من الاحترام .
فى كل هذه المعانى والتفسيرات لـ "التسامح" قدر من الحقيقة ، لكن جانباً مهماً من القصة لا يزال ناقصاً ، ذلك أن مصطلح التسامح لا يصف كميات دقيقة يمكن تدوينها وضبطها فى صيغ رياضية ، وإنما هو تعبير عما يسمعه الناس فيه ، أو يريدون سماعه فيه . فلهذا المصطلح تاريخ طويل ، وهو يدل منذ قرون عديدة ،علي أنه فضيلة يصعب تطبيقها تماماً فى كل عصر ، وفى كل الأمور . والتسامح بالمعنى الحديث يقتضى ، لا أن يتخلى المرء عن مبادئه ، أو يكف عن اظهارها والدفاع عنها والدعوة لها ، وإنما يعنى الامتناع عن استعمال أية وسيلة من وسائل العنف والتجريح والتدليس ، وبكلمة واحدة ! احترام الآراء وليس فرضها .
ولا يتأتى ذلك إلا بالبحث عن أرضية مشتركة للأنا والآخر ، من أجل الوصول إلى جوهر الحقيقة التى تقف فى ثنايا الكليات ، وهذا يفتح الباب أمام إمكانية أن أكون "أنا" على خطأ ، و "الآخر" على صواب ، وربما من خلال الحوار نصل سوياً إلى الحقيقة أو على الأقل نقترب منها .
فالإنسان مرهون بالمغايرة والاختلاف وعدم التطابق ، ولا معنى للتسامح أصلاً إذا كانت الأمور كلها تستدعى التماثل سواء فى الفكر أو العقيدة ، وربما كان التسامح هو الوئام فى سياق الاختلاف والتباين .
من هنا يختلف التسامح تمام الاختلاف عن اللامبالاة أو عدم الاكتراث أو التنازل لشخص كتعبير عن الأدب ، باعتبار اشتقاق الكلمة من لفظة (س.م.ح) . فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعى أننى أبدى تسامحاً إزاء أندادى فى العقيدة أو المختلفين معى .
أضف إلى ذلك أن التسامح لا يعنى تقبل الظلم الاجتماعى أو تنحى المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها ، كما لا يعنى ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلى عقيدة أخرى ، أو المواطنة الجبانة ، ذلك لأن التسامح هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير والتعبير ، أنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس .
بيد أن خشيتنا المبالغ فيها نحن معشر المؤمنين بالتسامح من أن نصبح نحن أنفسنا غير متسامحين ، هى التى أدت بنا إلى الموقف الخطأ ، والخطير الذى يوجب علينا أن نتسامح مع كل شئ .
أن التسامح اللامحدود يدمر التسامح ، وقد ناقش الفيلسوف الأمريكى "جون رولز" فى كتابه "نظرية العدالة" مسألة القدرة على التسامح مع غير المتسامحين نقاشاً مفصلاً . وقسم السؤال : هل ينبغى التسامح مع غير المتسامحين إلى قسمين : الأول هو .. هل ينبغى للجماعات غير المتسامحة أن تتذمر عندما لا يجرى التسامح معها ؟ . والثانى هو .. هل للجماعات أو الحكومات المتسامحة الحق فى ألا تتسامح مع غير المتسامحين ؟ .
للإجابة عن السؤال الأول يمكن الرجوع إلى القاعدة الذهبية : "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به" .. وبالتالى ليس للجماعات غير المتسامحة الحق أن تتذمر عندما لا يجرى التسامح معها .
أما بالنسبة للسؤال الثانى فرأى رولز أنه حين لا يتهدد سريان الدستور العادل ، فمن الأفضل التسامح مع غير المتسامحين ، أى عندما يكون الدستور آمناً فلا داعى لقمع حرية عدم التسامح . غير أن التسامح هو أكثر من قبول الآخر أو الاعتراف بحقه فى التباين والاختلاف ، أنه قبول "حق الخطأ" كحق من حقوق الإنسان والمواطن كما جاء فى إعلان 1789 الذى صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية .
فالحرية التى يولد الناس عليها ، كما تقول المادة الأولى من الاعلان ، هى حرية مطلقة لا قيد عليها إلا القيد الذى يجعل الناس سواسية فى التمتع بها . وعبر "ميرابو" خطيب الثورة الفرنسية الأشهر عن هذه الحقيقة جيداً ، فلا توجد فى نظره حقيقة خارجية ، حقيقة مستقلة عن الوعى أو سابقة عليه ، إنما الحقيقة بنت الوعى ، إنها ما يراه الفرد فى داخل وعيه ويعتقده الحقيقة .
ولذا فالآراء كلها ، صحيحها وزائفها ، ذات قيمة متساوية . فحرية الفكر فى إعلان 1789 هى إذن حرية مطلقة .
هذا المفهوم الليبرالى للحقيقة يجعل الخطأ له حق مساو لما للصواب من حق ، وهنا تكمن بذور التسامح وأسسه فى الليبرالية المعرفية ونظرياتها عن الإنسان ، فمن ناحية معرفية فإن محدودية العقل وقابليته للخطأ هى أساس التسامح ، وحيث لا يمكن للعقل الوصول إلى الحقيقة ، بمعنى أنه لا يستطيع تحديد صحة أفكاره وعقائده وصوابها ، فإنه مطالب بأن يسلك منهج التسامح إزاء عقائد الآخرين وأفكارهم ، لأن الحقيقة تملكنا جميعاً ولا يستطيع أى منا امتلاكها .
نخلص من ذلك إلى أن التسامح لا يمكن فهمه جيداً إلا إذا وضعناه ضمن سياقه التاريخى فالأفكار لا تنشأ فى الفراغ ولا تنتشر إلا إذا كانت تلبى حاجة تاريخية معينة . وهو كمفهوم أخذ حيويته ومجاله فى الغرب سواء فى التنظير أو الممارسة ، بل أنه منظومة "حقوق" كاملة ، وليس مجرد قيمة دينية أو أخلاقية فحسب كما يتشدق الأصوليون دوماً ، ومن ثم فإن أية مقاربة مفاهيمية أو فكرية بيننا وبين الغرب بالنسبة لهذا المفهوم تحديداً مسألة حرجة وعويصة ، فما يزال "التسامح" هشاً متلعثماً فى عالمنا العربى والإسلامى ، بينما هو منظومة ثقافية حضارية هدرت فقرت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام