الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقاب العادل

جمعة كنجي

2007 / 10 / 29
الادب والفن


هطلت أمطار غزيرة في الربيع ، فأورقت الأشجار ، وتفتحت الورود ، وازدهرت الحقول . تفجرت الينابيع العذبة من كل مكان ، وجرت المياه في الجداول رقراقة صافية . هنا وسط هذه الطبيعة الخلابة ، إختار النحل شجرة حور كبيرة ، فبنى لنفسه خلية ً داخل جذعها المجوّف .

طوال موسم الربيع ، إستمر النحل على العمل بجد ونشاط ، كل عاملة تغادر الخلية ، في وقت مبكر من الصباح ، تطير بعيدا ً عِبر الحقول ، باحثة عن الأزهار ، لتنقل رحيقها إلى الخلية . إستمر النحل يعمل أشهر عديدة ، دون كلل أو ملل ، حتى إمتلأت الخلية بالعسل ، ولم تعد تتسع للمزيد منه.

إحتار النحل في أمره . أيتوقف عن العمل والأزهار ما تزال تملأ الحقول ؟.

وجد النحل نفسه أمام معضلة ، غير أن فكرة لطيفة خطرت على بال الملكة ، فقالت :
- ليس هناك أي معضلة . إبحثوا عن مكان آخر لنبني خلية جديدة .

طارت نحلة لتبحث عن مكان ٍ ملائم ، لكنها لم ترجع . قيل أن زنبورا ً إفترسها .

خرجت نحلة أخرى ، لم ترجع أيضا ً . قيل بأنها تاهت ، ولم يعرف النحل ُ شيئا ً عن مصيرها .

لكن عزم النحل ِ لم يفتر . لا بدّ َ من بناء خلية أخرى . الصغار سيكبرون ، والخلية لا تتسع للجميع، والشتاء سيحل - عاجلا ً أم آجلا ً - ببرده وأمطاره وثلوجه . والعسل لن يكفي للكل. من الضروري أن يفتشوا عن مكان آخر ، قبل فوات الفرصة ، مهما كلفهم الأمر من تضحيات..
هكذا ، وبحماس منقطع النظير ، طار النحل في جميع الأتجاهات ، يفتش بين جذوع الشجار ، وفي شقوق الجبال ، وتحت الأجمات .. الأرض واسعة ، سيجدون حتما ً موضعا ً مناسبا ً لبناء خلية جديدة .
... عادت نحلة متعبة لتخبرهم أنها اكتشفت موضعا ً ملائما ً في جذع شجرة زيتون .
وفي موكب رائع بدأت الرحلة . ودّعت النحلات ُ القديمات صغارها ، ثم غادرت الخلية في رحلة طويلة نحو بيتها الجديد .. في الطريق، حطّت الملكة فوق غصن شجرة رمان للأستراحة ، تجمع النحل حولها على هيئة عنقود عنب ، إلاّ أفراد الحرس حيث ظلّوا يحومون في المنطقة خوفا ً من الأعداء .

إعترض سبيل النحل زنبور مغرور . إفترس عددا ً من النحلات المسكينات وقال بغطرسة :
- هذه الأرض أرضي ، ولن اسمح لكم الأقامة فيها ، سأفترسكم جميعا ً إن لم ترحلوا ..!
أجابته ملكة النحل الحكيمة :
- الأرض واسعة ، وليس من العدل أن تكون مُلك مخلوق دون آخر .
قال الزنبور المغرور :
- أريد حصتي من العسل ..! أنظروا إلى جسمي الكبير ، ولوني الزاهي . سأنتقم منكم إن خالفتموني.
عاود النحل رحلته .
الزنبور شرس وأحمق ومتغطرس . لا ينبغي أن يعرف مكان الخلية ، طار النحل إلى مكان مجهول ، وبنى خلية جديدة ، في مأمن مِن الأعداء . عمل النحل بنشاط لا مثيل له . الأزهار ما تزال كثيرة ، ستمتليء الخلية بالعسل قبل حلول موسم البرد والأمطار والثلوج.

جرادة صغيرة ظلّت تراقب النحل بفضول ، وهي تقضم كل ما يصادفها من نباتات خضراء .
إستمر النحل يعمل حتى حلَّ الخريف ، بدأت الأزهار تذبل .

عملت كل نحلة ٍ بأخلاص وتضحية ، إلاّ ذكور النحل الكسالى حيث ظلّوا يتسلقون في أرجاء الخلية عاطلين . قيل أن أحدهم غنّى يوما ً للملكة ، فأعجبت بصوته .. وهكذا تصور هؤلاء الحمقى أن الملكة ستمنحهم حصة كبيرة من العسل لمجرد أنها طربت لصوت أحدهم ذات يوم ! .

خرج ذلك الذكر الطائش ، جلس بباب الخلية ، وشرع يغني بصوت عال .
سمعت الجرادة صوته ، فلم يعجبها غناؤه . شرعت هي أيضا ً تغني غناء يثقب الأذن.
إقتربت منه وقالت :
- النحل ُ مخلوق غريب ، لا يعجبني سلوكه . الغذاء متوفر في كل مكان ، لكنه لا يأكل منه شيئا ً.
أجاب الذكر موضحا ً :
- النحل يضع العسل . يجمعه من رحيق الأزهار ، ويدخره غذاء ً لفصل الشتاء .
ثم أضاف يقول بكبرياء :
- لكننا الذكور لا نعمل . غنيت ُ ذات يوم للملكة ، فأعجبت بصوتي، وهي لذلك فقط قد تمنحني حصة كبيرة من العسل.
قفزت الجرادة قفزة جانبية ، إستقرت فوق غصن شجرة ، شرعت تأكل تارة ، وتغني تارة أخرى .
عاد الذكر يتسكع في الخلية.

بعد أيام عقد النحل مؤتمرا ً . وقبيل إنعقاد المؤتمر ، غادرت الملكة غرفتها ، إلتف حولها النحل باعتزاز. ألقت الملكة خطابا ً مقتضبا ً ، أشارت فيه إلى أن الشتاء على الأبواب . اتفق الجميع على أن العمل سيتوقف تماما ً في موسم البرد ، والعسل - برغم وفرته - قد لا يكفي . عليهم ،إذن ، أن يقتصدوا في طعامهم . هذه حصة الصغار، وهذه حصة العاملات ، وتلك حصة الملكة . هنا استاء الذكور وأثاروا ضجة في قاعة الأحتفال .. أين حصتهم هم ؟ ردت الملكة على إعتراضهم بهدوء : "انتم لم تساهموا في إنتاج العسل ، فمن العدل الاّ تذوقوا قطرة منه .. ! " وقيل بأن الملكة أمرت بطردهم ، لكن هؤلاء الحمقى رفضوا بغرور . ضنا ً منهم أن حجمهم اكبر وأقوى ، ويستطيعون انتزاع حصتهم بالقوة . وهنا هجمت العاملات عليهم ، قضمت أجنحة البعوض ، لسعت البعض الآخر بأبرها الحادة ، فرّ من نجا منهم على غير هدى ، هائما ً على وجهه ، باحثا ً عن مكان يحتمي فيه .

أقبل الشتاء ، اشتد البرد . شاهدت الجرادة ذكر النحل المغرور يختفي في ثقب شجرة .
تساقطت الثلوج ، غطت وجه الأرض ، إحتمت الجرادة في مكان آخر .
إشتد الجوع بالزنبور . ما ذا يأكل والثلوج تغطي كل شيء من حواليه ؟. تذكر خلية النحل . لو عرف مكانها ؟ ! آه.. كم العسل لذيذ ! لكن أين يجد الخلية ؟ وكيف ؟ .. النحل لا يخرج من خليته شتاء ً . تذكر الزنبور بأنه رأى الجرادة تختفي في موضع ما . لمَ لا يقصدها ؟ لعلها تعرف مكان الخلية . لكن الجرادة أخبرته أنها نسيت مكان الخلية . الجوع أنهك جسدها ، واضعف ذاكرتها . فكرت بعمق دون أن تهتدي إلى حل .أخيرا ً تذكرت أن ذكر نحل يختفي في مكان قريب .قالت : " إنه يعرف مكان الخلية . لمَ لا نذهب إليه ، قد يساعدنا ؟ ...

إتفق الزنبور والجرادة وذكر النحل على مهاجمة الخلية ، ونهب كل ما فيها من عسل .
عندما إقتربوا من الخلية ، لم يجدوا غير ثقب صغير لا يتسع إلا لدخول نحلة .

قال الزنبور بصوت آمر :

- هيا ، يا ذكر النحل ، ادخل.. الجوع يقتلنا . تستطيع أن تسرق لنا شيئا ً من العسل .
رد عليه ذكر النحل وهو يرتجف من الخوف :
- لا أستطيع ! سيقضي عليّ النحل بأبره الحادة . لمَ لا تدخل أنت ؟
صاح به الزنبور غاضبا ً : " يا لك من رعديد جبان !" ثم هجم عليه وافترسه .

طلب الزنبور من الجرادة الدخول إلى الخلية . جسمها صغير ، وقد تفلح في محاولتها . لكن الجرادة رفضت وهي تجهش بالبكاء . كيف يستطيع مخلوق ضعيف مثلها مهاجمة خلية نحل ؟ . وحين هجم عليها الزنبور طفرت طفرة عريضة ، سقطت في بركة ماء ، وماتت غرقا ً .

بقي الزنبور ينتظر وحيدا ً بباب الخلية ، لعل نحلة تخرج . طال الأنتظار دون أن تخرج أي نحلة ، أخيرا ً مل ّ من طول الأنتظار ، طار عائدا ًإلى حجره ، قيل أنه سقط صريعا ً في منتصف الطريق ، بعد أن نهشه هدهد بمنقاره .


الموصل 7/7/1985










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل