الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التابعيات العربية في واشنطن: صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون!

صبحي حديدي

2003 / 11 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


 

أولم الرئيس الأمريكي جورج بوش لـ "وجوه الإسلام" في الولايات المتحدة، من سفراء ممثّلين للدول العربية والإسلامية، وزعماء منظمات إسلامية، وأكاديميين وخبراء معنيين بالإسلام والمسلمين. وكانت الوليمة حفل إفطار بالطبع، في مناسبة الشهر الفضيل. وبدا بوش وكأنه قد لبس لبوس التسامح التامّ والاحترام الأقصى لديانة لم يقصّر في شتمها على نحو صريح أو موارب أو طيّ خطابه الكهنوتي الصليبي. وكان في هذا إنما يحذو حذو عدد من أركان إدارته ومستشاريه وجنرالات جيشه (تصريحات الجنرال وليام بويكن لا تزال في كلّ الأسماع، ماخلا البيت الأبيض الذي يرفض رشق الجنرال بزهرة جزاء تصريحات صدرت عن حسّ الغطرسة الدينية والثقافية والعسكرية، قبل أن تأتي من خلفية الجهل والحماقة والغباء).
وليس في وسع المرء، رغم هذا، إلا أن يشكر الرئيس الأمريكي على مكرمة سخيّة، ونقصد الدعوة إلى مائدة البيت الأبيض وليس إبداء التسامح تجاه الإسلام. ذلك لأنّ تسعة أعشار السفراء العرب، لكي لا نظلم سفراء الدول الإسلامية غير العربية، ليسوا أكثر من ممثّلين لأنظمة هي بمثابة تابعيات أمريكية، خاضعة راكعة تابعة مستسلمة. ورغم أنّ بوش يريد تسجيل نقطة ما في سياق ما تسمّيه أمريكا الراهنة "دبلوماسية الجمهور الإسلامي"، وهي في الواقع ليست سوى التسمية الكاذبة لعمليات ذرّ الرماد في العيون، فإنّ وجود السفراء العرب على مائدة قيصر العالم المعاصر ليس بالأمر العابر بالنسبة إلى أنظمة استكانت وهانت وبات الهوان عليها سهلاً متاحاً.
لا أحد، بالطبع، نبس ببنت شفة حول الـ "فيتوهات" الأمريكية في مجلس الأمن الدولي، والتي باتت اليوم أكثر انضواء في خانة الروتين منها إلى تشكيل حدث أو واقعة أو خبر عاجل. وحتى تاريخ الفيتو الأحدث عهداً، أي ذاك الذي يعطّل مشروع قرار يدين بناء سلطات الإحتلال الإسرائيلية جداراً عازلاً في عمق الضفة الغربية المحتلة، بلغ العدد 78 مرّة، ودائماً ضدّ مشاريع قرارات تدين الدولة العبرية لهذا السبب أو ذاك. لا أحد من فرساننا العرب الضيوف نغّص على المضيف الأمريكي إفطاره الرمضاني، فذكّره أو تذكّر معه ذلك الرقم القياسي. ولكن... مَن كان ينتظر من التابع أن يخرج على السيّد، شاهراً إحصائية واحدة، مجرّد رقم ليس أكثر؟
وذات يوم غير بعيد، قبل أقلّ من ثلاث سنوات، برّر جيمس كنينغهام، كبير مندوبي الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي آنذاك، قرار واشنطن استخدام حقّ النقض ضدّ مشروع قرار يدعو إلى إنشاء قوّة دولية لحماية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، على النحو التالي: "إنه قرار يستجيب للمسرح السياسي أكثر ممّا يستجيب للواقع السياسي"، و"الولايات المتحدة تعارض هذا القرار لأنه غير متوازن وغير قابل للتنفيذ، وبالتالي ليس من الحكمة اتخاذه".
المسرح الذي كان مشروع القرار ذاك يستجيب له هو مدن وبلدات وقرى فلسطين المحتلة، ومادّة المسرح هم مئات الفلسطينيين (وبات الحديث عن شيوخ ونساء وأطفال مكروراً معاداً)، سقطوا ويسقطون كلّ يوم جرّاء القبضة الدامية الدموية التي يعتمدها الإحتلال في التعامل مع الإنتفاضة (أي مع الأطفال راشقي الحجارة، مثل النساء السائرات في تظاهرات مسالمة). وأمّا ديكور المسرح ذاك فهو الحواجز العسكرية الإسرائيلية، والخنادق العازلة بين البشر والبشر والبلدة والبلدة (والتي تذكّر جيّداً بمزيج من خنادق الصليبيين وخنادق أوشفيتز!)، والمساحات المزروعة التي يتمّ تجريفها من الزرع والضرع، وجثث أشجار الزيتون واللوز والبرتقال...
كلّ ذاك المسرح لم يشكّل في نظر المندوب الأمريكي مادّة صالحة لصناعة "واقع سياسي"... كلّ ذلك المسرح العنيف الدامي! أيّ واقع سياسي آخر أراد كنينغهام لكي يرى البيت الأبيض بعض الجدوى في الإمتناع عن استخدام الفيتو؟ وهل يمكن لأيّ واقع، أيّاً كانت عناصره المجسّمة البارزة النافرة دماً ودماراً، أن يُوضع في خدمة الولايات المتحدة لكي تطوي بطاقة النقض وتوافق أو في الأقلّ تمتنع عن التصويت على قرار من أيّ نوع، يحمي هذا النوع البشري الذي يُدعى "الفلسطيني"، الأعزل وليس المسلّح، المرأة وليس الرجل، الطفل وليس الراشد؟
هذه العربدة الصريحة في إدارة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية على حساب الحقّ البسيط والقانون الأبسط والمجتمع الدولي بقضّه وقضيضه، لها في البيت الأبيض فلسفتها المتكاملة، التي تسعى إلى إقناع الحكام العرب بأنّ الفيتو الأمريكي في صالحهم قبل أن يكون في صالح الدولة العبرية... صدّقوا أو لا تصدّقوا. وبرهنت الأيام، وعلى امتداد 78 مناسبة، أنّ الزعماء العرب كانوا يزدادون التفافاً حول واشنطن، كلما استخدمت واشنطن الفيتو ضدّ مشروع يسبّب الصداع للدولة العبرية. ولكي نبقى في مثالنا السابق، نتذكّر أنّ أمريكا رفعت بطاقة الفيتو ضدّ مشروع القرار الذي دعا إلى إنشاء قوّة دولية لحماية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، دون أدنى مراعاة لـ "حرمة" الزعماء العرب المجتمعين آنذاك في عمّان، بل إنّ الإدارة لم تبذل أيّ جهد لمجاملتهم أمام شعوبهم. كذلك ضربت عرض الحائط بتقرير وتقديرات أعضاء لجنة التحقيق التي كانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قد انتدبتها لتقصّي الحقائق في فلسطين المحتلة. آنذاك لم يكتفِ عضو اللجنة الأمريكي ريشارد فولك بمشاطرة زملائه قسطهم من الإحباط إزاء الفيتو الأمريكي، بل ذهب أبعد حين اتهم عاصمة بلاده بـ "الفشل في أداء واجبها القانوني والأخلاقي".
وهذه، كما ينبغي أن نتذكّر، هي الأمّة التي لا غنى عنها كما كانت مادلين أولبرايت تردّد كلما رنّ ناقوس معاد لأمريكا في العالم الواسع الشاسع. وهذه أمّة تقول الأرقام إنها تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى المتفرعة عن فكرة الأمن القومي مايزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره. وفي عام 1993، كسنة قياس أولى بعد طيّ صفحة الحرب الباردة، كان نصف مليون عسكري أمريكي ينتشرون في 395 قاعدة عسكرية كبيرة، وفي مئات القواعد الثانوية الأصغر، في 53 بلداً أجنبياً. اليوم، إلى هذا كله، لدينا قوّة احتلال أمريكية في العراق قوامها 130 ألف جندي، ولدينا حرب يومية مستعرة الأوار، ومستنقع ودمار وخراب وأزمنة سوداء قاتمة.
نتذكّر أيضاً أنه منذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً، أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا. وفي غمرة ذلك كله كانت تجري عمليات دائمة من تصنيع العدو (الكاذب، الغائب...) وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والإنقلاب، وإشعال الحرب الأهلية. كانت هذه هي الحال في بناما ومصر والبيرو والبرتغال ونيكاراغوا والتشيلي وجامايكا واليونان والدومينيكان وكوبا وفييتنام وكوريا الشمالية والعراق وليبيا ولبنان... وليس مهماً هنا أن يكون العدو إصلاحياً، أو ديمقراطياً، أو اشتراكياً، أو شيوعياً، أو إسلامياً.
والولايات المتحدة هي "رائدة العالم الحرّ" بامتياز، وهي التي تفرض الثقة أو تحجبها، وتوافق أو لا توافق على هذه أو تلك من التعاقدات الدولية، بصرف النظر عمّن يبرمها. لكنّ أجهزتها الأمنية ــ وتحت ستار الأمن القومي الأمريكي دائماً ــ شاركت في إسقاط أنظمة ديمقراطية أو إصلاحية منتخبة في غواتيمالا، غويانا، الدومينيكان، البرازيل، تشيلي، الأرجنتين، اليونان، أندونيسيا، بوليفيا، وهاييتي. كذلك شاركت الأجهزة ذاتها في مؤامرات خفية، أو عن طريق استخدام المرتزقة، ضدّ حكومات شرعية في كوبا، أنغولا، الموزامبيق، إثيوبيا، كمبوديا، تيمور الشرقية، الصحراء الغربية، مصر، لبنان، البيرو، زائير، جنوب اليمن (سابقاً)، وجزر فيجي. ومنذ الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة بشنّ هجمات أرضية أو جوية ضدّ فييتنام، لاوس، كمبوديا، لبنان، غرينادا، باناما، ليبيا، الصومال، والعراق مراراً... وما تزال الشهيــــة مفتوحة!
هذا سجلّ ينبغي عدم التردد في اقتباسه وإعادة اقتباسه كلما قرع الأمريكيون طبول الحرب أو رفعوا كذباً رايات السلام، وكلما لوّحوا بالأصفاد والسياط والصناديق المعدّة لسجن الحضارات والشعوب والأفراد دونما مستند شرعي في القانون الدولي. ونعرف أنّ العربدة الأمريكية تنهض على جملة أسباب، دولية كونية وإقليمية محلية، في رأسها أنّ بيض الشرق الأوسط وُضع كلّه في السلّة الأمريكية منذ تدشين عمليات التسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، أي منذ زمن ليس بالقصير: قرار الرئيس المصري الراحل أنور السادات طرد الخبراء السوفييت والذهاب إلي القدس المحتلة؛ قرار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الإنفتاح شبه التامّ علي الولايات المتحدة (عبر الرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نكسون ووزير الخارجية الأشهر هنري كيسنجر)، ليس على خلفية التسوية فحسب، بل كجزء من أثمان السكوت الأمريكي عن فرض الهيمنة السورية على لبنان؛ وصولاً، بالطبع، إلى "عاصفة الصحراء"، ومؤتمر مدريد، واتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وسلسلة المحادثات السورية ـ الإسرائيلية، السرية والعلنية، عن طريق الوسيط الأمريكي؛ وأخيراً احتلال العراق.
الأسباب الأخرى تبدأ من استقالة العالم طواعية أو اختياراً (الإتحاد الأوروبي، روسيا، الصين)، وتمرّ باستمرار اختلال ميزان القوّة لصالح الدولة العبرية ضدّ أنظمة عربية شمولية وعاجزة وتابعة، ولا تنتهي عند تكريس مبدأ القطب الدولي الأوحد وبسط النفوذ الأمريكي على نظام العلاقات الدولية وتعطيل ما تبقّى من أنساق عمل الشرعة الدولية في الأمم المتحدة عبر الإستخدام الحرّ لحقّ النقض.
وفي قلب السجلّ الكوني لعربدة الولايات المتحدة تظلّ العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية حجر زاوية، حيث يتمّ تبادل المنافع مثل الإستراتيجيات، ويجري التضامن على مبدأ نصرة الحليف ظالماً أو مظلوماً. وذات يوم بعيد ــ في سنة 1796! ــ حذّر الرئيس الأمريكي جورج واشنطن الأمّة الأمريكية من الإنخراط في "ارتباط عاطفي" مع أية أمّة أخرى، لأنّ "ذلك النوع من الإنخراط سوف يخلق وهماً عامّاً بوجود مصلحة مشتركة، والحال أنه لا توجد مصلحة مشتركة بين الأمم". بعد أكثر من قرنين ارتأى جورج بول (الدبلوماسي المخضرم، وأحد أبرز مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي) أن هذا الإرتباط العاطفي بين الولايات المتحدة والدولة العبرية بلغ درجة فاقعة صارخة فاضحة، تستدعي وضع كتاب كامل يرصد محطاتها منذ العام 1947 وحتى اليوم.
وجورج بول نصح الساسة الأمريكيين باعتماد مبدأ المثلّث في تمحيص العلاقة مع الدولة العبرية، بحيث يكون ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثان هو المصلحة القومية الإسرائيلية، وضلع ثالث هو المصلحة القومية العربية. الأيّام أثبتت، وما تزال، أن أضلاع المثلث الراهنة تسير علي نحو مختلف تماماً: ضلع أوّل هو المصلحة القومية الأمريكية، وضلع ثان هو المصلحة القومية الاسرائيلية، وضلع ثالث هو... المصلحة القومية لليهود الأمريكيين!
هذه هي أضلاع المثلث كما تتجسدّ اليوم، على نحو يفقأ الأعين، في سلسلة المواقف المنحازة إلى سياسات الدولة العبرية أياً كانت بربريتها ووحشيتها، وكما يبرهن عليها الفيتو الأمريكي الذي بات قراراً روتينياً طبيعياً غريزياً. وأصحاب الضلع الثالث الغائب، السادة سفراء العرب في واشنطن، كانوا حاضرين على مائدة إفطار الرئيس الأمريكي فقط، سعداء بالوليمة، راضين بأن تكون هذه هي الغنيمة... كلّ الغنيمة. ولقد كانوا، مادمنا في الشهر الفضيل، أشبه بالحال التي تصفها الآية الكريمة: "كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون"!
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 6 فلسطينيين في هجوم عسكري إسرائيلي على مدينة جنين بالضف


.. الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية: تابعوا النت




.. بريطانيا: سوناك يقر بهزيمة حزبه ويستقيل من زعامة المحافظين


.. عواصف رملية، جفاف، تصحر.. الوضع حرج في العراق! • فرانس 24 /




.. صورة حقيقية لطائر فلامنجو -بلا رأس- تثير ضجّة بعد الفوز بمسا