الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياحة في العيون الحرة

ناهد بدوي

2003 / 11 / 1
اخر الاخبار, المقالات والبيانات



    في باريس لم أهتم كثيراً برؤية برج ايفل وقوس النصر وغيرها من المعالم السياحية. الوسائل البصرية الحديثة كسرت من حدة الدهشة عند زيارة بلد جديد إذ لا جديد فيه لم يسبق مشاهدته أو كان باستطاعة المرء رؤيته وهو جالس في بيته. لكن الدهشة حقا كانت برؤية أشياء أخرى لم تفلح كل تلك الوسائل السمعية البصرية في إيصاله إلي ورفعه إلى حد الإدراك.
   الدهشة هنا تجلت بالتفاصيل الصغيرة التي تستطيع التقاطها بالشوارع والمترو. والمترو هو مكاني المفضل للمراقبة والتفكير والتأمل. فهنا أم مع طفلها وهناك مجموعة من المراهقين يتحدثون وبجانبي شاب يداعب شعر حبيبته.والتسول بشكليه المباشر وغير المباشر أي عبر عزف الموسيقى. ويوجد هنا شكل جديد من التسول لا نعرفه في بلادنا ويتكرر كثيرا هنا، بأن يقف أحدهم في مقدمة قاطرة المترو ويبدأ بالكلام بكل قوة واتساق، يبدأ بالتحية للجميع وبالاعتذار من الإزعاج الذي يمكن أن يسببه لهم، ثم يبدأ بشرح قضيته وكأنه قائد سياسي محنك وبعدها يدور على الركاب طالبا نقودا وتعاطفا مع وضعه. ثم يشكرهم على كافة الأحوال ويغادر المترو عند توقفه في المحطة التالية. الذي أدهشني هو أنه حتى المتسول هنا يجيد التعبير عن رأيه وأحواله أمام الناس وبكل ثقة وطلاقة.
   الأطفال يغردون كالعصافير وإذا ابتسمت لهم بادروك بالضحك واللعب، لا يستغربون. ولا يخافون فهم لم يعهدوا العنف من أحد. وهم يشعرون بالأمان كالحمائم والعصافير في هذه البلاد، إذ لأول مرة في حياتي أرى عصفورا يقف على الطاولة التي نحتسي عليها القهوة ويتنزه عليها دون خوف فهو لم يعهد العنف من أحد. المراهقون يتسامرون ويضحكون وعيونهم تبتسم قبل شفاههم.يلعبون ألعابهم ومقالبهم الصغيرة بحرية فهم لم يعهدوا العنف من أحد. أما الكبار فقد تميزت عيونهم بالوداعة والهدوء الداخلي وخاصة عيون النساء تنظر بحرية وأمان واسترخاء. لا تهرب إلى الفراغ كعيون النساء في مجتمعاتنا كي لاتتهم بأشياء لاتحمد عقباها. أحيانا تكون عيونهن قلقة وأحيانا أخرى حزينة ولكنها أبداً لاتسدل باتجاه الأرض خوفا من شئ ما، فهي لم تعهد العنف من أحد.
    والزحام هنا مدهش أيضاً. ليس الزحام بحد ذاته وانما شكله، فرغم كثافته الكبيرة (أكثر من بلادنا) خاصة في أوقات الذهاب إلى العمل والعودة منه. رغم الأعداد الهائلة التي تصعد إلى المترو وتنزل، لا أحد يلمس أحدً ولا أحد يدفش أحداً.. فهم لم يعهدوا الدفش من أحد.
والأهم من هذا كله أنني أنا المرأة الآتية من الشرق أجلس بحرية دون خوف من اغتصاب العيون لجسدي كما عهدت في بلدي. أجلس بحرية ودون خوف من اعتداءات صغيرة تعودت عليها في بلدي حتى اعتقدت بأنها من طبيعة الأشياء كأن يلتصق بي مراهق أو أعاني من قرصة مكبوت أو لمسات مسروقة مني ورغما عني. أجلس بحرية ودون خوف من صرخة عسكري أو لسعة سوط سمعته في بيتي قبل سماعه في سجني. تصوروا أنا أجلس بحرية واسترخاء أنا المرأة التي عهدت العنف من كل الناس!!
   لكني مشتاقة جدا لبلدي ولا مفارقة هنا إذ أن الذي يميز بلادنا ليس حرارة الشمس فحسب وانما حرارة الأهل والأصدقاء. ولكم حلمت هنا بأن، وكم سيكون ذلك رائعا، أن تمتزج تلك الحرارة والحميمية مع تلك الرائحة الذكية التي تعيد تشكيل الصدور بشكل أرحب وتعيد تشكيل العالم بشكل أجمل. تلك الرائحة التي تسمى.... الحريــــــــــــــة. نعم إني أصرخ هنا: الحريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.
ناهد بدوية
دمشق
باريس صيف 2003








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24