الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة السياسية والعدالة: -المغرب/الأرجنتين- دراسة مقارنةالجزء الرابع عشر

عبد الواحد بلقصري

2007 / 10 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


2- الأرجنتين:
يعد الأرجنتين بلدا متقدما اقتصاديا، إلا أنع غير مستقر سياسيا. بدليل كثرة الانقلابات العسكرية التي عرفتها الدولة، وهيمنة الجيش على زمام السلطة ومجمل الحياة السياسية، عجل بفشل العمل السياسي، وتدهور الحياة الاقتصادية، الأمر الذي فتح الباب أمام العنف السياسي لضمان الاستمرارية، حتى أصبح يطلق عليه وسط الفاعلين والجماهير الارجنتنية بالحرب الوسخة . على اعتبار الأرجنتين عرفت أعنف نظام ديكتاتوري في شعوب أمريكا اللاتينية بين سنة 1976 و 1984.
إرهاب الدولة هذا الممارس من قبل الطغمة العسكرية، أصبح سياسة حكومية ممنهجة بدءا بمنع الأحزاب السياسية، ومرورا بوضع النقابات والجامعات تحت الرقابة، وانتهاء باستراتيجية القتل والاختطاف، التعذيب والاعتقال بدون محاكمة من أجل إسكات كل صوت معارض، تحت ذريعة استتبات الأمن والنظام العامين .
وتضليلا للرأي العام الأرجنتيني، وصرف أنظار المواطنين عن الأزمة الاقتصادية، دخل الجيش في حرب خارجية هزم فيها. دفعت القادة العسكريين إلى التنازل عن السلطة وتسليمها إلى المدنيين، بعد إصدار مجموعة من القرارات تضمن للظغمة العسكرية عدم المساءلة عن الجرائم التي تم ارتكابها من قبلهم الوثيقة النهائية للحرب ضد التمرد والإرهاب " قانون التهدئة المدنية" .
إصدار قرارات لم يمنع القادة العسكريين من المساءلة عن الأخطاء التي ارتكبوها في مجال حقوق الإنسان باعتبار يشكل نقطة جوهرية في بناء الديمقراطية ودولة الحق والقانون، ونوع من الإجابة عن التمزق الاجتماعي الذي خرب العلاقات الإنسانية والاجتماعية، ولأجل تكريس نوع من الأخلاق السياسية والمشروعية، وإعادة بناء الثقة عبر وضع قواعد تخليق الحياة العامة . تمثل ذلك بالأساس في إحداث لجنة مكلفة بالبحث في ماضي الانتهاكات، وإصداراتهم لبعض كبار العسكريين الذين تناوبوا على الحكم منذ 1976 إلى 1983. لجنة الحقيقة هذه تمتعت بصلاحيات مهمة في الحصول على المعلومات الضرورية وجمع الأدلة خاصة عن الانتهاكات المرتكبة من قبل قوات الأمن وإعداد، وإعداد التقارير، وتخويل القضاء مهمة تحديد المسؤولية ومعاقبة مرتكبي الجرائم السياسية، وفي خضم عمل اللجنة فتحت جمعيات حقوق الإنسان ملفاتها للجنة. وتفتيش مقرات الاعتقال ونبش المقابر السرية، وعودة المنفيين، الإدلاء بالشهادات حتى في السفارات والقنصليات خارج الأرجنتين .
انتهت أعمال اللجنة بعد وضع تقريرها الختامي تحت عنوان " حتى لا يتكرر هذا" وتحريك مساطير تقديم الوثائق كأدلة إلى القضاء . وبالتالي استطاعت لجنة الحقيقة أن تعيد بناء الذاكرة الجماعية للشعب الأرجنتيني. وإزالة اللثام عن حقيقة ما جرى الأمر الذي جعلها نموذجا حيا يبين أن حكومات مدنية ديمقراطية قادرة على كشف الحقيقة. وتشكيل لبنات الإنصاف في مرحلة انتقالية حرجة. عبر ما عرف ب "هيئة المتابعة والمصالحة" كنمط جديد يعيد التماسك للحياة الاجتماعية والإنسانية بالأرجنتين، وإشراك الجيش في الديمقراطية. وبناء المصالحة الوطنية .
3- جنوب إفريقيا:
مما لاشك فيه أن جنوب إفريقيا، عرفت الميز العنصري عمليا منذ وصول المعمرين البيض 1950 وإدخال نمط الإنتاج العبودي كأسلوب للعمل، ومن ثمة هيمنة البيض على السلطة السياسية .
وجعل السود في خدمة أسيادهم البيض، بدءا بمنعهم من التصويت سياسيا، واقتصاديا بالسيطرة على أجود الأراضي عبر قانون الأراضي المحلية، مرورا ببداية العمل الرسمي بنظام الميز العنصري على أساس تقسيم المجتمع، ومنع اختلاطه واندماجه في المرافق العامة. وانتهاء بتحريم العمل السياسي انطلاقا من خطر الأحزاب وأشكال الرقابة للنقابات والجمعيات. وتخويل القوات الأمنية صلاحية ممارسة القمع والاعتقال بدون محاكمة . مما أدى إلى تكثيف سياسة القمع وتقويتها .
أوائل التسعينات اعتبرت بداية لإلغاء النظام العنصري. والدخول في مرحلة الانتقال الديمقراطي، بتلاقي الإرادة السياسية للفرقاء والفاعلين. ساهم في ذلك كما يعتبر احد المراقبين نهاية الحرب الباردة وتداعيتها بانخفاض دعم النظام العنصري من قبل الغرب. العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، الانقسامات داخل كتلة البيض . توج ذلك بتوافق الفرقاء السياسيين خاصة حزب المؤتمر الإفريقي والحزب الوطني. في وضع دستور انتقالي، وإيجاد صيغة للتعامل. مع الماضي الذي مورس فيه النظام العنصري، هذا الدستور الانتقالي شكل وثيقة للعمل تتجه نحو إعداد دستور جديد، ينبني على المصالحة الوطنية، وإرجاع الأراضي إلى أصحابها. وميثاق جديد لحقوق الإنسان واحترام القانون الدولي، وإحداث محكمة دستورية جديدة مستقلة، وإنشاء لجنة وطنية لحقوق الإنسان .
عمليا الإجراء الأول والثاني يتعلقان بطي صفحة الماضي، أما الإجراءات الثلاث الأخيرة تتعلق بالإصلاحات المؤسساتية.
لجنة الحقيقة والمصالحة عملت على تكريس احترام حقوق الإنسان، واهتمامها بالمصالحة الوطنية والكشف عن الحقيقة ضمن إطار يتجاوز ماضي الخلافات والانقسامات . برصد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الحاصلة في مرحلة 1960 إلى 1994. منح العفو لمن يعترف بالوقائع ذات الصبغة السياسية إجلاء الحقيقة عن أماكن وجود الضحايا، وإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية والمدنية، وإدلاء الضحايا بشهادتهم والمطالبة بجبر أضرارهم .
في النهاية وضعت لجنة الحقيقة والمصالحة تقريرها الختامي، الداعي إلى العمل وفتح الاقتراحات حول الحقيقة والمصالحة بالشكل الذي يضمن حدا لتلك الانتهاكات. هذه اللجنة خولت لها صلاحيات واسعة من حيث دراسة طلبات العفو وإجراءات البحث والتقصي عن الخروقات المرتكبة في مجال حقوق الإنسان، والاهتمام بجبر الضرر وإعادة التأهيل الاجتماعي والإنساني .
في الأخير يمكن القول على أن هاته التجارب الدولية (جنوب إفريقيا –البرازيل- الأرجنتين) بالإضافة إلى تجارب أخرى الاوروغواي- واليونان فتحت نقاشا قويا حول حقوق الإنسان وتم تأسيس مائدة للحوار بين كافة الأطراف لمعالجة قضية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. هادفة من ذلك توضيح مصير المعتقلين المفقودين والتأكيد من الأماكن التي تتواجد بها جثتهم فنشأت لجن للبحث عن الحقيقة، من خلال مسطرة المساءلة. فالحقيقة تم الإنصاف للوصول إلى الهدف الكبير وهو المصالحة ولكن لكل بلد تجربته من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، وتعامل كل بلد مع المسألة الحقوقية محكوم بمبدأ النسبية، رغم الآمال المعقودة على لجان الحقيقة سلفا.
هاته التجارب جعلت من مسألة التعامل مع الماضي الأسود تحظى بحظوة لها معنى خاص في تجارب متعددة ولبلدان عدة، فالماضي الأسود وما عرضه من انتهاكات وتجاوزات لحقوق الإنسان، ألقت بضلالها على الكثير من المواقف مع مسألة القطيعة مع الماضي ولكن القطيعة لا تعني الانطلاق من الصفر بقدر ما ترمي إلى التعبير والتجديد دون فقدان خيط التواصل مع النقطة القوية في ماضي الشعوب وتاريخها.
يمكن القول انطلاقا مما تحدثنا عنه أنه إيمانا بكون العدالة هي مرتكز دولة الحق ولبنة من لبنات بناء المجتمع الديمقراطي، وتأكيدا للشرعية السياسية والهوية القومية. والتشبث بشرعية حقوق الإنسان كونيا. سارت على ذلك العديد من الدول. وفي نفس منوال التجارب التي تحدثنا عنها سابقا ونذكر منها: الشيلي-الاورغواي-الفلبين-اليونان. كما تميزت دول أخرى من الانتقال إلى الديمقراطية بانتفاضات هادئة، وعرفت انتقالا ديمقراطيا بدون عدالة انتقالية انطلاقا من التوافق السياسي والاجتماعي على مستوى السلطة والمؤسسات، السلوك والمشاركة السياسيين، نذكر منها اسبانيا. البرتغال، بولونيا.
واختيارنا للأرجنتين كنموذج هو قربها أكثر من التجربة المغربية من بعض النواحي، بالرغم من اختلاف الجغرافية السياسية والثقافية للبلدين، وسوف نتطرق إلى أوجه التشابه والاختلاف بإشارات مركبة من خلال ما سوف نستخلصه من مميزات وخصوصيات التجربتين (المطلب الثاني).

المطلب الثاني: مقارنة التجربة المغربية بالتجربة الأرجنتينية
1- أوجه التشابه:
بالرغم من أن الأرجنتين عرفت انقلابا عسكريا كانت عواقبه وخيمة على الشعب الأرجنتيني، وبسببه عرفت الأرجنتين كما تم التأكيد سابقا أعنف نظام ديكتاتوري في شعوب أمريكا اللاتينية ما بين 1976 و1984 فإن هناك أوجه التشابه ما بين التجربتين دون أن ننسى أنه حتى المغرب بالرغم من أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفتها سنوات الجمر والرصاص كانت نتيجة عنف سياسي، فإن هذا لا يعني أنه لم تعرف بعض المحاولات الانقلابية بل عرف محاولتين انقلابيتين.
تكمن أوجه التشابه في أن مميزات لجنة الحقيقة في المغرب كانت على شاكلتها في الأرجنتين، من حيث مكوناتها وأهدافها وطريقة اشتغالها مع اختلافات نسبية سوف نتعرض إليها لاحقا في أوجه الاختلاف هذا أولا، وثانيا نجد أن هناك تشابه فيما يخص الفترة التي عرفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في البلدين الأرجنتين من سنة 1960 إلى 1994 والمغرب من 1956 إلى 1999 بالرغم من الفترة المغربية كانت أطول بعض الشيء.
وثالثا: أهداف اللجنة فيما يخص الأرجنتين والمغرب تتشابه في عمومية أهدافها، دراسة طلبات البحث وإجراءات البحث والتقصي عن الخروقات المرتكبة في مجال حقوق الإنسان، والاهتمام بجبر الضرر وإعادة التأهيل الاجتماعي والإنساني، إلا أن هذا لا يعني أن هاتين التجربتين متشابهتبن في بنيتهما السطحية والعميقة، حيث إن أوجه الاختلاف ستبين عمق الاختلاف بين التجربتين.
2- أوجه الاختلاف:
أول مسألة نجد التجربة المغربية تختلف عن التجربة الأرجنتينية هي أن التجربة الأرجنتينية عرفت قطيعة مع النظام السياسي السابق، عكس التجربة التي وقعت في ظل استمرارية نفس النظام، هذا بالنسبة للمسألة الأولى.
أما المسألة الثانية فإن التجربة الأرجنتينية فيما يخص البحث والتقصي عرفت نزاهة وأعطيت صلاحيات واسعة بدون حدود سياسية لأعضاء اللجنة وبالتالي كانت النتائج إيجابية، ثم معرفة جميع المختفين وتم نشر أسمائهم في وسائل الإعلام كل هذا ساهم في مصالحة وطنية حقيقية في الأرجنتين هاته المصالحة أدخلت الأرجنتين في انتقال حقيقي نحو الديمقراطية، عكس التجربة المغربية التي لم تستطع أن تحقق الثقة بين الدولة والمجتمع، وبالتالي تقويم الذاكرة الجماعية للمغاربة وإدخال المغرب في انتقال ديمقراطي حقيقي.
المسألة الثالثة هو انفتاح التجربة الأرجنتينية على وسائل الإعلام وعلى الجامعة، وعلى المجتمع المدني، عكس التجربة المغربية رغم انفتاحها إلا أن هذا الانفتاح لم يكن ممأسسا، وبالتالي لم يخلق آليات للمصالحة الحقيقية، بالإضافة إلى أن التقرير الختامي للأرجنتين كان إيجابيا واحترمت فيه جميع معايير تقارير الدول التي عرفت تجارب العدالة الانتقالية عكس التجربة المغربية.
هذا باختصار شديد أوجه التشابه والاختلاف بين التجربة الأرجنتين والتجربة المغربية، وما سنبين خصوصيات التجربة المغربية ومدى نجاحها هو ردود الفاعلين الحقوقيين والأكاديميين والسياسيين حولها، هذا ما سأتطرق إليه في المبحث الثاني من خلال دراسة ميدانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا وفرنسا.. تصاعد في التوتر والتصريحات المتبادلة| #غرفة_ا


.. مصر تصعد من لهجتها تجاه إسرائيل وتحملها مسؤولية ما يحدث في ق




.. مارتن غريفيث لسكاي نيوز عربية: الحرب في غزة مازالت بعيدة عن


.. فض اعتصام طلاب جامعة ميشيغان الداعم لغزة بالقوة




.. في شهر واحد.. تعرف على حصيلة قتلى جيش الاحتلال الإسرائيلي