الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من غير كلمة وداع !

نايف أبو عيشه

2007 / 10 / 27
الادب والفن


في طريقها للمستشفى شعرت بانقباض مفاجيء في صدرها وظنت ان زوجها حدث له مكروه , وعندما راته اطمانت وحمدت الله انه ما زال على قيد الحياة . كانت قد احضرت له الحليب والكعك وبعض الفواكه , ولاحظت ان مريضا يشغل السرير المجاور حيث انسدلت الستارة بينهما وسمعت المريض الجديد وهو يتحدث مع زوجته بنبرة واهنة . صبت الحليب الساخن لزوجها ,دون ان تكترث او يثيرها الفضول لرؤيته او سؤال المراة المرافقة له عن مرضه وحالته كما هي عادة اهل المريض حين يزورون اقاربهم . حكت لزوجها عن ازمة الحاجز وتشديد اجراءات التفتيش خاصة للشبان الصغار مما سبب في تاخرها عنه . سالها عن الاولاد فطمانته عليهم وجلست على حافة السرير تستريح من عناء المشوار . سمعت المريض المجاور يتجادل مع زوجته بنبرة متعبة عن المرض والعلاج ومقدار الالم الذي يحتمله كل ليلة. تنبهت حواسها فجاة وحاولت ان تسمع الصوت باهتمام الذي بالكاد يصل لسمعها بوضوح . شعرت بالاضطراب والارتباك اكثر وتسارعت دقات قلبها , ولم تصدق سمعها وكادت تطل من وراء الستارة لكنها خجلت والغت الفكرة وترددت قبل ان تسال زوجها عن المريض المجاور , فاخبرها انه من العائدين مع السلطة وكان في غزة وبدا المرض معه منذ خمس سنوات وسافر للعلاج في الاردن لكنهم اخيرا جاءوا به هنا للمستشفى بعد ان وصلت حالته درجة الخطر . ازاحت زوجته طرف الستارة خلال حركتها وهي تسنده الى حافة السرير , فلمحت وجه رجل بالكاد تعرفت على ما تبقى من ملامحه التي تغيرت وذبلت بعد كل السنين والمرض والهزال الذي اصابه , وقد ابيض ما تبقى من شعره الخفيف بمؤخرة راسه وحفر الزمن تجاعيد عميقة في خديه . وقفت مذعورة جوار سرير زوجها فجاة وقد صعقها منظر الرجل وحالته , وحتى تسيطر على ارتباكها وخفقان قلبها المتسارع خرجت بخطى بطيئة الى الممر القريب واسندت ظهرها للجدار واغمضت عينيها , وعادت بذاكرتها للوراء قبل خمسة وثلاثين سنة, وخاطبت نفسها :" معقول يا ربي ان يحدث هذا الان .اية صدفة هذه التي تجمعني به في المستشفى وهو في حالة المرض الخطير . هل يعقل ان ذلك الشاب المرح والجريء والمتدفق بالحيوية والنشاط تحول الى بقايا انسان هده المرض ونهش جسده بهذه القسوة . ساعدني يا رب في تجاوز هذه المحنة والصدمة العنيفة ,فقد كان الحب الاول والاخيرفي حياتي , ولن انسى ذلك اليوم عندما جاء يودعني ومعه باقة ورد وخاتم ذهبي ورسالة قصيرة , وغادر مسرعا لان السيارة كانت تنتظره ليكمل دراسته الجامعيه في لبنان واعدا اياها بالرجوع وطالبا منها الانتظار . ترى ما الذي حدث معه خلال كل تلك السنين ولماذا كل هذا الغياب , والرجوع فجاة ليفتح جرحا قديما فاذا به اكثر ايلاما من قبل , لانه عاد مريضا وقريبا من الموت , بعد ان تجاوز الخمسين من عمره وانا اقترب منها بعد شهور , وبعد انتظار طويل وفقدان الامل برجوعه تزوجت الرجل الذي يكبرني بعشرين سنة لان القطار فاتني وما عدت احتمل الحاح اهلي واصرارهم على زواجي , ورغم هذا احتفظت بالرسالة والخاتم , اما باقة الورد فقد ذبلت ويبست اوراقها وطارت في مهب الريح, ورغم كل السنين ما زالت ذكراه عالقة في قلبي وعقلي وروحي. يا رب كيف اتصرف وماذا افعل . هل اخبره عن نفسي . هل يتذكرني لو راني . هل سيعرفني كما عرفته . هل اخبر زوجته بالقصة . مذا ستقول عني . امراة مجنونة تهذي بذكرى بعيدة عفى عليها الزمن. ترى هل اخبرها عني بعد زواجه منها . هل انسحب من اخر لحظات حياته , كما انسحب من حياتي وتركني وحيدة مع امالي الوردية واحلامي الجميلة فتعلقت بها لسنوات طويلة وانا انتظر رجوعه كما وعدني , لكني افقت منها على واقع مرير مؤلم وقاس بكل المقاييس . ولكن ها هو يعود اخيرا كاطلال بيت متهدم , بعد ان هد المرض جسده القوي, وحوله لبقايا انسان اخر غير الذي عرفته واخبته يوما ما .اي حظ عاثر هذا الذي ساقه اليوم في طريقي . كم ساحتاج من القوة لاتخطى هذه المحنة ؟" افاقت من افكارها على صوت الممرضة تناديها . حثت الخطى ودخلت الغرفة مسرعة , وفوجئت بزوجها العجوز يناديها بعصبية لانه لم يعد يحتمل اجواء المستشفى ويريد الرجوع للبيت . لاحظت على الفور ان المريض المجاور لزوجها قد غط في سبات عميق وانفاسه متلاحقة بسرعة . فتجرات اخيرا وازاحت الستارة الفاصلة بين السريرين فوجدت امرة تصغرها بالسن تجلس حزينة على مقعد ملاصق لسرير زوجها وتتامل وجهه المتعب من الالم بصمت . تراجعت للوراء ولم تحتمل النظر اليه من جديد , وعندما كرر زوجها طلبه منها بالحاح ردت بعصبية مفاجئة " كيف بدك تطلع من غير ما يوافق الدكتور ؟" صاح من جديد " بلا دكتور بلا زفت .خلص بدي اروح ع الدار لاني زهقت من المستشفى ". بعد خرجها من الغرفة الى حديقة المستشفى, وهي تحاول استيعاب المفاجاة التي صعقتها وشقلبت كيانها وكادت تنسى نفسها وتحكي معه وترى ردة فعله , لكنها اشفقت عليه والغت الفكرة من راسها وسلمت بالامر الواقع المرير. وحين لحقت بها زوجته للحديقة حكت لها عن دراسته في الجامعة والتحاقه بالثورة ومشاركته في المعارك ونجاته من الموت باعجوبة رغم اصابته فيها اكثر من مرة , وكيف خرج مع المقاتلين من لبنان وكيف رجع اليها وكيف عاد الى الوطن مع السلطة , وعن اكتشاف مرضه ورحلة علاجه الطويلة . حاولت ان تغفر له وتسامحه على غيابه ونسيانه اياها كل تلك السنين لكنها لم تستطع ذلك, رغم كل شيء !
بقلم : نايف أبو عيشه
26/10/2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل