الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرتدّ الضحية

صبحي حديدي

2003 / 11 / 4
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


"موسوعة الحضارة اليهودية في القرون الوسطى"، تحرير نورمان روث، مجلد ضخم في 752 صفحة صدر قبل أيام ضمن سلسلة الموسوعات التي تصدرها دار النشر الأنغلو ـ ساكسونية الشهيرة Routledge. وهذا العمل الضخم، الذي يكمل مهامّ "الموسوعة اليهودية" الأمّ، يتناول كلّ ما له صلة بتاريخ اليهود في شتى أنحاء العالم، وفي جغرافيات تمتدّ من الفسطاط إلى فرانكفورت، ابتداء من انهيار الإمبراطورية الرومانية وحتى سنة 1492.
المشكلة في هذا السفر الجديد هي، ذاتها على وجه الدقة، المشكلة التي يصادفها المرء في كلّ الأدبيات التاريخية التي يكتبها يهود أو تتعاطف مع قضاياهم، وأعني تضخيم عقدة الضحيّة إلى درجة احتكارها والاستئثار بها ورفض مقارنتها بأيّ وكلّ المآسي التي عرفتها البشرية على امتداد تاريخها، القديم والوسيط والحديث والمعاصر. أمّا الجانب الثاني، الذي للمفارقة يكمل السيرورة، فهو أنّ ضرورات تضخيم تلك العقدة (وهي، في الغالب، تلبّي اعتبارات سياسية ـ مؤسساتية أكثر منها إنسانية ـ أخلاقية) تدفع معظم المؤرّخين اليهود إلى تأثيم حفنة من كبار يهود البشرية، بذريعة أنهم كانوا من "المرتدّين" على العقيدة.
خذوا، على سبيل المثال الذي يعيدنا من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، الشاعر الألماني الشهير كريستيان يوهان هنريش هاينة، الشاعر الذي لا يكفّ الألمان عن تلاوة وترتيل قصائده الغنائية البديعة، خصوصاً تلك التي تحوّلت إلى مقطوعات موسيقية على يد موسيقيين كبار من أمثال شومان وشوبيرت ومندلسون. وكان هاينة، الذي وُلد سنة 1797 في دسلدورف لأسرة يهودية وحمل اسم هاري بن سيمون هاينة، قد اعتنق الديانة المسيحية وهو في الثامنة والعشرين من عمره لكي يحصل على وظيفة إدارية و"ينتسب إلى هذه الحضارة الغربية" كما قال.
كذلك كان هاينة قد تتلمذ على يد هيغل، وصادق كارل ماركس (الذي استقى من هاينة العبارة الشهيرة التي تصف الديانة المسيحية بـ "الأفيون الروحي")، كما عاشر كبار الأدباء الفرنسيين حين نفى نفسه إلى فرنسا، وبقي فيها حتى وفاته سنة 1856. وإنه، في عرف تيّار عريض من المثقفين اليهود، اليهودي المرتدّ الأكثر شهرة وإثارة للسجال والجدل، ليس بسبب ارتداده عن الديانة فحسب، بل لأنه أطلق العبارة الشهيرة: "اليهودية ليست ديانة. إنها كارثة". أكثر من ذلك، يتابع خصومه من اليهود، كتب هاينة مسرحية بعنوان "المنصور"، يروي فيها تفاصيل اضطهاد المسلمين في إسبانيا أيّام محاكم التفتيش، ويسكت عن اضطهاد اليهود في المكان ذاته والفترة ذاتها.
وثمة جانب ثالث، أظنّ شخصياً أنه بدوره يكمل السيرورة ويستكمل دورة التأثيم، وهو التمجيد المعاكس وتبييض الصفحة. ففي كتاب جديد بعنوان "هاينة: حياة مزدوجة"، حاول الإسرائيلي إيغال لوسين إعادة استكشاف سيرة هاينة على نحو يتيح له بلوغ نتيجة معاكسة تماماً للرأي الشائع في أوساط المثقفين اليهود: هذا الرجل كان يهودياً أصيلاً (استناداً إلى عبارة شهيرة أخرى أطلقها هاينة: "لن أعود إلى الديانة اليهودية لأنني لم أتركها في الأساس")، وكان من كبار المنذرين بالفكر الصهيوني، بل كان لا يقلّ صهيونية عن هرتزل نفسه!
ثمة محاججة لا تخلو من صواب، وثمة براهين معتمدة على هذه العبارة أو تلك الواقعة، هذا الموقف أو ذاك النصّ. وثمة اتكاء واسع على مسألتين: أنّ هاينة اعتنق المسيحية مكرهاً لا راغباً، وأنّ السلطات النازية فهمت هذه الحقيقة فوضعت أعماله في عداد 25 ألف كتاب أُحرقت في برلين سنة 1933. ويرى إيغال لوسين أنّ هاينة ــ الذي كتب يدافع عن ظلم اليهود في قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، وفي قضية "فطير صهيون"، واقعة دمشق الشهيرة ــ لا يمكن إلا أن يكون يهودياً، وصهيونياً أيضاً وأوّلاً.
ولكن... مَن هم هؤلاء الذين يسعي لوسين إلى إقناعهم بيهودية هاينة؟ أهم اليهود أنفسهم، أم سواهم من أبناء الديانات الأخرى؟ وما الهدف، في نهاية المطاف؟ وما الذي سيتغيّر في نصّ هاينة إذا تأكّد المرء أنه اعتنق المسيحية طواعية، أم أُكره على ذلك؟ مثل هذه الأسئلة لا تبدو هاجساً مركزياً، ولا فرعياً في الواقع، حين يقلّب المرء الأمر في عشرات الحجج التي يسردها الكتاب في مسعى البرهنة على أنّ هاينة عاش حياة مزدوجة، مسيحية ـ يهودية في آن.
ولكن، أليس من الثابت أنّ هاينة سخر من الحياتَين معاً، في آن أيضاً، وعلى قدم المساواة ربما؟ ألا يعيدنا هذا السجال الجديد إلى سجالات قديمة حول طائفة من الأسئلة الشائكة التي يسير بعضها هكذا، مثلاً: ماذا يمثّل اليهودي في الثقافة (الغربية) المعاصرة؟ ما الذي سيتغيّر في شعر هاينة، إذا تبيّن أنه كان هاري بن سيمون أكثر من كونه كريستيان يوهان هنريش؟ وما فائدة الغرق في 752 صفحة من تاريخ اليهود في القرون الوسطى إذا كانت الحصيلة لا تخرج عن هذه الدائرة الضيّقة الأولى إلا لكي تدخل في دائرة ثانية أضيق، ولكن لا ثالث لها، هي عقدة الضحية؟
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صراع بيل غيتس وإيلون ماسك، أنت مع من؟ | #الصباح


.. وفد بقيادة رئيس الموساد ديفيد برينغ يتوجه إلى قطر لبدء جولة




.. طائرة الرئيس الصيني ترافقها طائرات مقاتلة بعد اختتام زيارة إ


.. كيف يبدو المشهد السياسي في تونس بعد تحديد موعد الانتخابات ال




.. الرئيس البولندي: قطر تلعب دورا بارزا في منطقتي الشرق الأوسط