الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غيمة في بنطلون مبقع

حمزة الحسن

2003 / 11 / 4
الادب والفن


لفتت رسالة من الصديق حسن بلاسم نظري على نحو قوي هذه المرة  نحو الجيل الشعري الخارج  في السنوات الأخيرة، ليس كل هذا الجيل حتما، ولأنه أيضا ليس جيلا واحدا، بل عدة أجيال، مع الاختلاف حول مفهوم الجيلية الذي صار يطلق كل  ربع ساعة، مع انه مشروط بتحولات بنيوية في المجتمع، أقول لفتت نظري رسالة حسن إلى ان بعض هؤلاء عند موت صديق لهم أو قرب موته أو دخوله مصح أو تعرضه لحادث يشرعون حالا في تذكر فقط عدد الكؤوس التي شربها في المشارب، وعدد المرات التي راوغ فيها صاحب البار، وكم مرة  لم يدفع هو، لأن الشجاعة الشعرية هي أن لا تدفع، بل كم عدد المرات التي وجد فيها يتبول على حائط، أو كم الساعات التي قضاها نائما في مراحيض عامة  وكم عدد البناطيل المرقعة من كثرة الجلوس على المصاطب عكس مقولة رامبو( من العبث أن تبلى سراويلنا على مقاعد الدرس) مع أن هذا الشاعر الرائي كان يشم الضوء بجلده ويقيس المسافات بحدوساته وكشوفاته وكان يجوس الطرقات منبهرا بكل شيء: بدراجة هوائية مرمية في العشب أو ارجوحة قديمة أو مطرقة باب أو جدار عتيق نما عليه العشب حسب تجاربه في تشوش الحواس أي قلب الوظيفة الطبيعية للحاسة حيث تصير الأذن تشم والشم يسمع الخ.

ليس في الأمر قطعا خطأ فرديا، ولا يمكن إدانة هؤلاء الذين لا شك كانوا يتمنون لو أن أرواحهم وأجسادهم نمت بصورة طبيعية وكانت لديهم ذكريات غير هذه البائسة التي  يعتقدون  أنها أساطير نادرة وحكايات خارقة وبطولات لا يقوى عليها غيرهم.

ولو رجعنا إلى ذكريات أقرانهم من جيل سابق من الشعراء والكتاب والمثقفين الذين خرجوا مثلا في وقت مبكر وقبل الخليج الثانية لوجدنا صورة مختلفة نوعا ما.

والسبب هو أن هؤلاء حصلوا في الهامش السريع  والوقت الفائض والهدنة بين سلطة وبناء ثكنة ومؤسسة قوية، على فرصة طيبة للبناء العائلي والكتابة والسفر والحوارات الثقافية والتعرف على احوال الكتاب العرب من خلال زيارات ولقاءات ومهرجانات.

ورغم ضيق هذا الهامش، وكونه بين سقوط سلطة  ضعيفة وصعود فاشية وحشية، الا ان هذا الجيل تمكن من بناء ذاكرة عامرة بذكريات كثيرة غير حكاية البار والبنطلون المبقع والمرقع والمصاطب وعدد الكؤوس أو عدد زوغان هذا الشاعر أو ذاك من الدفع الخ وهلم جرى من أمجاد  مثيرة للشفقة.

لذلك فإن موت أحد من  الجيل  الشعري والأدبي الجديد حتى لو كان من السكر  سيؤدي إلى بناء أسطورة غريبة عن حياته حتى يظن القارئ البسيط أن عليه لكي يكون شاعرا أو كاتبا أو مثقفا جديا يحسب له الحساب فعليه أن يموت في بار أو على رصيف كي تخلق له تراجيديا مؤلمة وحكايات  عجيبة.

بالمقابل تتلاشى عند هؤلاء كل البطولات الحقيقية التي قام بها عراقيون بسطاء في عبور بحار وقارات وحدود على قدمين أو في سفن وشاحنات أو العيش في مدن من الصفيح أو في مستوطنات للجرذان كما شاهدتهم في أحياء راولبندي في  الباكستان وفي غيرها بل حتى لا يتوقفون عندها وبعضها تجاوز الاسطورة فعلا، كأن ذاكرة هذا الجيل معطوبة ومنكمشة على سلوك البار كما تنطوي ذاكرة عسكري متقاعد على أحداث الثكنة.

إن عراقيين مجهولين، جنودا وعمالا وباعة، ومثقفين، اضطروا للنوم تحت شاحنات عبرت بهم أوروبا كلها تحت جحيم  من النار، أو اختبأوا في بواخر وفي أقبية وغرف وعنابر رطبة حارة بلا ماء أو شمس ولا يعرفون أين هم وبعضهم خرج هيكلا عظيما والبعض الآخر حتى لم يخرج ووجدوه طعاما لجرذان الباخرة أو غرق المركب وصار هو وعائلته وليمة لأعشاب البحر.

بصمت وبلا مراسيم ولا ادعاء ولا مباهاة ولا قدرة على الكتابة ولا حتى يعرفونها عبروا البحار والجبال والحدود الشاحبة والملغومة وناموا على الأرصفة الاسيوية المهلكة والمغبرة بلا مال ولا أمل.

لا أحد يتذكر هؤلاء، لأن البطولة ، بطولة الجيل الشعري  الخارج بعد الخليج الثانية، وأكرر ليس كلهم، هي بطولة ناقصة ما لم يكن البطل مخمورا، وما لم يكن الشاعر الميت قد استهلك كثيرا من البناطيل على الأرصفة  كي يكون شاعرا، بلغتهم، تتبعه أجراس الملائكة وأحذية الشرطة.

وشرط البطولة حين يسقط، ان يسقط ليس مضرجا بدمه من أجل الحرية، فلم يحدث هذا أبدا في التاريخ الشعري العراقي في ربع قرن الأخير كما أعرف، بل أن يسقط مبقعا بقطرات من الماء الحار من داخل بنطلون عليه غيمة ما يكوفسكي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض


.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار




.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة


.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن




.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع