الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منفى الكتابة

نبيل ياسين

2007 / 10 / 30
الادب والفن



1- لكي تكون البطولة خالدة كان عليها ان تتجسد في كلمة او حجر. بقيت دماء المحاربين على الاحجار والاتربة والحصى وضفاف الانهر كما بقيت تتدفق في المراثي والمناحات والاغاني الحزينة في بلاد مابين النهرين.
كان المنفى يتقلص باتساع الوطن. والغزوات التي كانت تعبر حدود دويلات المدن ، كانت تفتح الطريق لنمو امبراطوريات ، المنفى فيها ابعد من ان تعبر حدوده قدم انسان. حتى الثغور اصبحت اوطانا بالتقادم. وگلگامش الذي اصطحب صديقه انكيدو الى غابة الارز، اضطر ان يعبر البحر ليقتلا خمبابا الرهيب.اضطر ان يرحل الى المنفى ليقتل الوحش الذي يهدد الوطن والحياة وبفرض السكون.
هل كان هذا الوحش ، خمبابا ، رمزا للمنفى . فبعد ان قتلاه عادا الى الوطن . وبعد ان مات انكيدو بكاه گلگامش. لكنه عبر الحدود هذه المرة بحثا عن الخلود.خاض في مياه الموت ليصل الى جده اوتونابشتم ليسأله عن عشبة الخلود. وحين اراد العودة الى الوطن حمل معه هذه العشبة التي اراد ان يتخلص بها من الموت المحتوم.لكنه قبيل ان يصل الارض التي ولد عليها، فقد العشبة الى الابد .لا ضرورة للخلود في الوطن الخالد.
ملحمة گلگامش كانت ضد المنفى. لم تنس الملحمة ان توصي گلگامش بنفسه وبلاده على لسان سيدوري صاحبة الحانة التي في الطريق. كان المنفى اذن ضد الكتابة ، كما كان الموت ضد الخلود.
ولو لم يكن ابو فراس الحمداني اسيرا لدى الروم ماكان شعر بغربته وهو يسمع نوح الحمام في المنفى بعد ان كان هديلا في الوطن :
اقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ ايا جارتا هل تشعرين بحالي؟
المنفى ليس مسرحا للمغامرة بقدر ماهو مسرح للآلام. والكتابة في المنفى هي كتابة عن صناعة الآلام وتطورها، والفروع التي تتحد لاخراج هذه الصناعة الى الوجود.الكتابة في المنفى هي البحث عن, وانتاج مواد خام اكثر منها صناعة بضاعة. واذا كان البعض يعتقد ان هناك مفهوما يسمى « ادب المنفى » فهذا الاعتقاد ليس اكثر من توصيف عشوائي لاثر المكان. او تغيره بالمعنى الصحيح.ان الكاتب ليس كاتبا بالمكان . والمكان المتحول في الخريطة هو قبل ذلك مكان دائم التحول في الكتابة. واذا كان المتنبي قد حول الامكنة شعريا فانه فعل ذلك لانه كان يشعر ان الامكنة تتحول دائما في الكتابة. وامكنته كلها لم تكن مكانا له. ولذلك فقد نفى المنفى في الكتابة :
وخالفت قوما فارقوني فشرقوا وغربت اني قد ظفرتُْ وخابوا
لكنه خاب هو الآخر لانه حاول جعل الامكنة مكانا خارج الكتابة.
اما امرؤ القيس فقد صعد حدود الجزيرة الى الروم ليعود الى المكان الذي قتل فيه ابوه. لكنه لم يعد. وظل مقيما قرب جبل عسيب مؤشرا على تحول الامكنة الدائم في الكتابة :
اجارتنا انا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيبُ
المكان لعب الدور الابرز في الشعر الجاهلي. كان اثره تعبيريا حادا. كل طلل ، وكل دمنة ، وكل فيفاة كانت تتحول في الكتابة. والوقوف على الاطلال نوع من الكتابة. جنس للتعبير اكثر منه وصفا لمكان. الكاتب ليس كاتبا بالمكان ولا اثر للكتابة دون المكان .
يتوسع المنفى ويضيق كما تتوسع وتضيق رئة بفعل الهواء. الذين يصطلحون باستمرار بحثا عن تمايزات بين ادب وطن وادب منفى لن يجدوا في اصطلاحاتهم اثرا لرائحة متبخرة . اذا كان للمنفى ادب ما فليس اكثر من ان يكون مثل هذا الادب محمولا في صناديق كما تحمل البضاعة في مثلها. المنفى كائن داخل الكتابة . واذا حررته من داخلها سيتحول الى اصطلاح خاو نختلف على مقدار ترديد موجاته الصوتية .
بفعل الامكنة المتغيرة في الارض قايض رامبو الشعر بتجارة الاسلحة في الحبشة واليمن. لكن بفعل الامكنة المتغيرة في الكتابة نطق كفافي بالمعنى التالي
«ان انت خربت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم .
فهي خراب اينما حللت »
لكل شاعر وكاتب منفاه. الخناجر والطعنات نفسها ترحل معك حيثما ذهبت.المنفى لايتنقل . الوطن هو الذي يرحل معك .واذا كان الوطن هو الاخر منفى فان المنفى يرحل معك الى منفاك بكل خرابه الذي كان في الوطن.اشعر انني في منفى داخل منفى داخل منفى مثل صناديق العاب السحر.
الذين صنعوا لنا منفانا يصنعون من وجودهم فيه منفى آخر لنا.اشعر مثل شعور سبارتكوس الذي كان يقاد الى المكان الذي يقتل فيه عبر طريق طويل طويل من جثث رفاقه المعلقة على الجانبين.
لكل كاتب طريق آلامه وجلجلته.اعني الكاتب الذي يضع في نصه شيئا من الالم.الكاتب لايضع نصه. فالنص ليس نهاية الكتابة. النص حجر الطريق والخطى هي مانضعه في نصوصنا.انها تبقى في النص كما تبقى الخطى المعنى الذي اوصلنا الى الهدف المقصود.
حين كانت الكتابة في الوطن تتحدث عن منفى فيه صارت الكتابة تتحدث منفية عن وطن . في مثل هذه الكتابة تتجمد المواد والاشياء والاشكال ويتجمد البشر .الريح الباردة لفجر كانوني تجمدت هي الآخرى ، كما تجمدت تلك المرأة في ذلك الفجر في الضوء الرمادي وظلت الى اليوم :
على هيئةِ تمثالٍ من العذابْ
تركتها راكعةً فوق رصيفِ الدارْ
لربما ظلتْ على هيئتِها تلك الى الآنَ،
يراها الجارْ
وربما شكا هيئتَها ، تلكَ ، الى الوالي
فتمَّ نقلُها لمتحفِ الآثارْ
هل هناك منفى اوسع من تحجر كل ماهو في الوطن ليبقى كماتركته وانت بعيد عنه. تحاول ان تمسك بروح الاشياء التي غادرتها وتركتها ولاتريد تحويلها الى اصطلاح .لكن هاهي الاشياء والمواد والبشر تتحول الى اصطلاحات هنا وهناك . كأن الايديولوجيا قدرنا،ومنفانا. كأن التاريخ المكرر غل في اعناقنا. كأنهم هم ، في الوطن والمنفى، من يشق صدرك بكسرة من زجاج.
الكتابة اشلاء . شلو في وطن. وشلو في منفى. وشلو آخر جاف ويابس يتفسخ. اراه في بعض الليالي صاعدا سلم الاسوار الحجرية ليقف في الأعلى . ناظرا الى كل الجهات ، مبتسما شاعرا بالفرح والخوف وهو يتمتم: لقد اخذت كل هذا الوطن .
هذا هو منفاي .

2- من منفاي اواصل وصال الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??