الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدبلوماسية الأميركية ومأزق المتغيرات الدولية

محمد بن سعيد الفطيسي

2007 / 10 / 30
السياسة والعلاقات الدولية


إن المتتبع لسياسات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية , وطريقة إدارتها لعلاقاتها الدبلوماسية مع الآخرين , يدرك تمام الإدراك بان هناك كثيرا من الاستثناءات والمتناقضات الخاصة , التي تتميز بها السياسة الخارجية لهذه الإمبراطورية عن مثيلاتها من دول العالم , ويرجع ذلك بالطبع إلى عدد من العوامل والأسس والقواعد التي تتحكم في طريقة صياغتها لسياساتها الخارجية , بداية من التاريخ والدين , ومرورا بالقوانين الوضعية ولعبة المصالح السياسية , وليس انتهاء بالعادات والتقاليد والأذرع الخارجية " كاللوبي اليهودي " على سبيل المثال لا الحصر, وقد اختصر الكاتب الأميركي نيوت غينغريتش تلك العلاقة بقوله أن ( هناك في واشنطن اليوم وجهتا نظر متضاربتان للعالم :- النظرة الأولى تركز على الحقائق والقيم والتبعات , والثانية تؤمن بالعملية الدبلوماسية والكياسة والمجاملة ) , وهي حقيقة يتلمسها العالم من خلال علاقة التناقض المستمر والدائم في تعاملاتها مع الجميع , باستثناء المستعمرة الإسرائيلية الكبرى , وذلك لاعتبارات استثنائية حظيت بها هذه المستعمرة , نتيجة لأوضاع سياسية وتاريخية ودينية خاصة 0
وبالطبع فان ما ذكر من تلك الأسس المحركة لسياسات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية , قد لا يختلف كثيرا من الناحية النظرية عنه في بقية دول العالم , وذلك باعتبار أن اغلبها هو المتحكم الأساسي في عملية إدارة وصناعة القرارات الخارجية للدول , وان اغلبها يشترك في نهج متشابه في عملية بناء وصياغة القرار السياسي الخارجي , مع الأخذ بالحسبان لبعض الفوارق والاعتبارات التاريخية والأخلاقية التي تتحكم بها طبيعة المجتمع وتعاليمه الدينية والاجتماعية , كالفوارق في العادات والتقاليد , والنظرة التاريخية0
وهنا نقف قليلا عند هذه النقطة , والتي تفترق فيها الدول في الإطار الداخلي الخاص لسياساتها الخارجية , رغم اشتراكها في البناء الخارجي , فتتميز كل واحدة من تلك الدول , وبدون استثناء ببعض الصفات والموروثات التي لا يشاركها فيها أي من دول العالم الأخرى , وبالتأكيد فان الولايات المتحدة الأميركية هي واحدة من أهم دول العالم اليوم , والتي يتحكم في بناء قراراتها الخارجية وصياغتها, عدد كبير من العوامل الخاصة – التاريخية منها والسياسية والثقافية 00 الخ - والتي تميزت بها عن بقية دول العام , لدرجة أن ذلك الرقم من المتناقضات والاستثناءات قد تسبب لها في كثير من الأحيان بالفوضى وازدواجية المعايير والتناقض , مما افقدها قدرتها على ممارسة السياسة الخارجية بطريقة مفهومة وواضحة ومتزنة , وسبب لها الكثير من الإحراج مع أصدقاءها وحلفائها , وافقدها ثقة الآخرين بها , وهو ما أشار إليه الأستاذ والتر0 أ 0 مكدوجال في كتابه " ارض الميعاد والدولة الصليبية " حول أسباب ذلك الارتباك فيقول :- إن ( الارتباك والتضارب أصبحا القاعدة في العلاقات الخارجية الأميركية , وليس ذلك بسبب افتقادنا للمبادئ التي ترشدنا , ولكن لأننا قـننا مبادئ دبلوماسية عديدة منذ عام 1776م , تتجاذبنا كلها في نفس الوقت ) 0
هذا بالإضافة إلى عدد من العوامل السيكولوجية والأيديولوجية والتاريخية , والتي لازالت الولايات المتحدة الأميركية واقعة تحت وطأة ضغوطاتها وامتداداتها , كالعقدة التاريخية المتمثلة في التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق الهنود الحمر, والانعزالية الأنانية التي مكنت هتلر من ارتكاب جرائمه , والعنصرية المعادية لليابان والتي ساعدت في التحريض على قصف بيل هاربر , هذا بالإضافة إلى استخدام الأسلحة النووية , والاستعمار الاقتصادي الذي أثار الحرب الباردة , والعسكرية التي تسببت في سباق التسلح النووي , وهو ما يؤكده الكثيرون من أساتذة التاريخ والعلاقات الدولية في الولايات المتحدة الأميركية نفسها , وليس انتهاء بما أطلق عليه سيرجيوليون في نظرته للولايات المتحدة الأميركية بقوله :- إن أميركا كانت دائما طيبة وسيئة وقبيحة ,- مثالية منافقة وواقعية غالبا في الوقت نفسه – لذلك فإننا مضطرون لإعادة التفكير في أميركا وفي العالم المعاصر ثم في العلاقة بينهما 0
لذلك فان كل تلك التناقضات في السياسة الخارجية الأميركية , قد أوقعها في مأزق حرج , وخصوصا في علاقاتها الدبلوماسية مع الآخرين , وعلى وجه التحديد في سياسة ضبط النفس الاستراتيجي , ونظرة الآخرين إلى مصداقيتها الأخلاقية , وطبيعة نواياها المستقبلية , وهو ما نود أن نشير إليه في هذا الموضوع , انطلاقا مما سبق ذكره وغيره الكثير , متناولين بعض الأمثلة التاريخية على ذلك , كعلاقاتها مع روسيا والصين واليابان على سبيل المثال لا الحصر , ففي الوقت الذي تشعر فيه هذه الإمبراطورية بأنها وصلت إلى أوج قدرتها الجيواستراتيجية , والمتمثلة في اتساع رقعتها الجغرافية الدولية , وهيمنتها العسكرية , لا زالت تواجهها كثيرا من العقبات الجيوبوليتيكية , والمتمثلة في كراهية الكثير من شعوب الأرض لسياساتها الامبريالية والاستعمارية والتوسعية , رغم أن هذه التوجهات الأخيرة لم تضعف من قدراتها الجيواستراتيجية على المدى القصير , ولكن من المؤكد بان استمرار هذه الإمبراطورية في السير على طريق القوة الصلبة , سيؤثر بالتدريج في قوتها الناعمة الطرية على المدى البعيد , مما سيفقدها القدرة في الاستمرار على هرم القيادة العالمية , أو كونها إمبراطورية تدور حول فلكها بقية الأجرام الأرضية 0
فها هي علاقاتها مع العملاق الروسي القادم بقوة تتدهور بشكل تدريجي , رغم المحاولات المستمرة من قبل الطرفين لامتصاص تلك الخلافات والاختلافات الواضحة في وجهات النظر , حول طريقة إدارة مصالحهما الجيواستراتيجية في العالم , فبداية من الدرع الصاروخي الذي تعتبره روسيا تهديدا لأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية , إلى التدخلات الأميركية المستمرة في الشأن الداخلي الروسي , وليس انتهاء بمساعي الإمبراطورية الأميركية إلى اقتصاص ما ينبت من ريش على جناحي الدب الروسي , وذلك بهدف إبقاء هذه الأخيرة في عداد الأموات , وذلك على اعتبار أن الولايات المتحدة الأميركية تنظر إلى روسيا على أنها التهديد العسكري الوحيد لمصالحها ولأمنها القومي والوطني , ( كونها البلد الوحيد الذي يملك قذائف ورؤوسا حربية نووية كافية لتدمير الولايات المتحدة الأميركية , ثم أن لروسيا نطاقا جغرافيا هائلا , وشعبا مثقفا , وعلماء ومهندسين مهرة , وموارد طبيعية هائلة ) , مع عدم تناسي التقارب الأميركي الياباني الذي لم تخفي روسيا قلقها المتزايد منه , وهو ما عبر عنه لافروف في لقاءه مع وزيرة الخارجية الأميركية بتاريخ 13 / 10 / 2007 م بقوله :- إنه ضد "التورط الياباني" في الخطط الدفاعية الأميركية ، مشيرا إلى أن التعاون العسكري المتزايد بين اليابان وأميركا وأستراليا سيؤدي إلى "نتائج سلبية" على المنطقة , وعليه فان هذه النظرة السياسية إلى علاقتها مع روسيا , قد أوقعتها في شرك الارتباك والتناقض , وسبب لها نوعا من الفوضى في سياسة ضبط النفس الاستراتيجي مع دولة كروسيا على سبيل المثال 0
كما أنها لا زالت إلى يومنا هذا – أي – الولايات المتحدة الأميركية , غير قادرة على استيعاب القوة الصينية المتنامية في مختلف الجوانب , وامتصاص مخاوف العملاق الصيني من طبيعة النظرة الأميركية إلى تلك القوة , حيث تعتبر الإمبراطورية الأميركية التنين الصيني احد ابرز منافسيها على رقعة الشطرنج الدولية واسيا على وجه التحديد , في وقت تنظر فيه الصين إلى الولايات المتحدة الأميركية على أنها واحدة من القوى الدولية التي تشكل تهديدا لأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية في مناطق معينة من العالم , وخصوصا من خلال دعم الولايات المتحدة الأميركية المستمر والمتواصل لاستقلال تايوان والتي تعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من دولتها وسيادتها الوطنية , مما دفع هذه الأخيرة إلى تقوية علاقاتها الأمنية مع اليابان واستراليا وغيرهما من الدول الآسيوية ، وذلك على حساب التفاهم الهش أصلا بين واشنطن وبكين حول المسائل الإستراتيجية والجيوبوليتيكية , ويجادل الأستاذ آرثر والدرون في كتابه " كيفية عدم التعامل مع الصين " وهو مختص بدراسة الشأن الصيني بأنه ( إذا استمرت الاتجاهات الراهنة , فستصبح الحرب في أسيا محتملة عاجلا أم أجلا 000 فالصين اليوم تسعى لإخافة الولايات المتحدة الأميركية كي تبتعد عن أسيا الشرقية , بطريقة تشبه إلى حد ما سعي ألمانيا لإخافة بريطانيا قبل الحرب العالمية الأولى ) 0
وآخر الأمثلة الراهنة والحديثة على تأزم الدبلوماسية الأميركية , ووقوعها في موقف حرج مع بعض حلفائها الاستراتيجيين , هو موقفها من اليابان حول قضية تحميل طوكيو الجزء الأكبر من تكاليف إمدادات المياه والمرافق إلى القواعد العسكرية الأميركية في اليابان , و تغطية التكاليف المرتفعة لعملية تعزيز القدرات العسكرية الأميركية في آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة كوريا الشمالية والصين , حيث تسعى اليابان في هذا الشأن إلى خفض ما يسمى بـ"ميزانية التعاطف" التي تخصصها سنويا بموجب اتفاقيات ثنائية للمساعدة في دعم نحو 50 ألف عسكري أميركي في اليابان , حيث أن هذه الأخيرة قد عانت كثيرا من ارتفاع التكلفة الناتجة عن ذلك الدعم , والتي تجاوزت ابتداء من سنة 1978 حتى سنة 2006 مبلغ 13 تريليون ين ياباني تقريبا كنفقات تمركز القوات الأمريكية داخل اليابان , في المقابل تنظر الولايات المتحدة الأميركية إلى هذا الحليف موقف الحذر , رغم انه ليس هناك من إرهاصات تدل على تفوق ياباني قريب على الإمبراطورية الأميركية , إلا انه وقبل سنوات مضت كان الأمريكيون يخشون أن يتفوق اليابانيون عليهم , وقد ورد وصف بليغ الإيجاز في مقال لمجلة نيوزويك تحت عنوان " ساعة القوة " في سنة 1989 م , حول هذه القضية , وهو أن ( السؤال المقلق في غرف الاجتماعات والمكاتب الحكومية حول العالم , هو ما إذا كانت اليابان على وشك أن تصبح قوة عظمى تحل محل الولايات المتحدة الاميريكية كعملاق المحيط الهادي , وربما حتى الأمة رقم 1 في العالم كله ) 0
وهكذا وقعت الولايات المتحدة الأميركية في عدد من المواقف الدبلوماسية الحرجة والمربكة لسياستها الخارجية , نتيجة لتلك العوامل التي لم تستطع إلى يومنا هذا العمل على التنصل منها بهدف الحياد , أو حتى إيجاد طريقة ما لامتصاص آثارها السلبية على الآخرين , مما حتم عليها في كثير من الأحيان ودفعها للتنازل عن بعض من مكانتها الإستراتيجية وقوتها السيادية الدولية , وذلك بهدف إرضاء حلفاءها ومن هي في حاجة إليهم , كما وسبب لها كما سبق واشرنا كثيرا من الارتباك والفوضى , وافقدها ثقة الآخرين فيها , وغيرها من الآثار التي لا زالت الولايات المتحدة الأميركية تعاني منها في علاقاتها الخارجية مع العديد من دول العالم , لذا فان الحل هو بان تتمكن الولايات المتحدة الأميركية ممثلتا بوزارة الخارجية من التوصل إلى نقاط التقاء مع العالم , بداية بانتهاج القوة الناعمة الطرية كبديل للقوة العسكرية , والعمل على إيجاد سياسة خارجية حيادية , وبناء دبلوماسية أكثر مرونة , وهو ما يشير إليه – نيوت غينغريتش - رئيس مجلس النواب الأميركي في الفترة من " 1995 - 1999 م " بقوله :- يجب أن تكون لدينا وسائل سياسية فعالة وموثوقة تتجاوز وزارة الدفاع , ولن يحصل هذا إلا إذا قمنا بعملية تغيير جذرية طال انتظارها لوزارة الخارجية , وإلا فان الولايا ت المتحدة الأميركية ستجد نفسها في موقف دفاعي على كل الأصعدة ) في نهاية المطاف 0










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟