الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب حميد العقابي أصغي إلى رمادي

نعيم شريف

2007 / 11 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


عند محاولة الدخول الى كتاب (( أصغي الى رمادي )) يكون العنوان أحد المفاتيح الأساسيّة في موجّهات القراءة* ، فالعنوان ، أيُّ عنوان ، هو بنيّة صغرى تُشيرُ الى وجهة النص ، والعنوان هنا جملةٌ شعريّة تُضمرُ قدراً من المجاز ، وهذا المجاز يُغيِّرُالإنطباع الأولي للقراءة، تلك القراءة التي تفترضُ إنّها تقرأُ فصولاً من سيرة ذاتية ، لكن بنية العنوان تقودنا الى موجّه آخر في تصدينا لإكتشاف هذا النص ، إنّه / العنوان / يقترحُ تخلّياً عن الذائقة المطمئنة ، تلك الذائقة التي تشترط المنطق في السرد والإقناع في التفاصيل وتتطلّبه كخيارٍ وحيد وثابت .
إن عنواناً يُشاكسُ الأُسس المنطقيّة لحواسنا ، هو عنوان تحريضيٌ ومحفّزولايشترط إتفاقنا معه ، لكنه يطرحُ منطقه الخاص ويكتب فهمه لهذا المنطق .
الكاتبُ يبني مدخلاً يُريده مفتاحاً لما سيأتي به النص ، وهو بجملة العنوان يُحيلُ الى إبدال متعمدٍ في وظائف الحواس تُرهص بدروها مدى فداحة الألم المتوقع ، فالخلخلةُُ في وظائف الحس هنا لاتعني فقط الإبدال في وظيفة الأذن بمنحها قدرة الإبصار لكنها تعني فيما تعنيه حركيّة الإصغاء لشيءٍ يبدو ساكناً / الرماد / لكنّه -حسب الكاتب - رمادٌ صائتٌ له صوت يمكن الإصغاء إليه ، إنّه يُريد القول بأن هناك هسيس نارٍ
أبدية الإوار كانت قد أحالته رماداً وهو ماإنفك يصغي الى ترمُّده .

كتاب حميد العقابي يتأبى على التصنيف و يتمرّد على المحددات الإجناسية جميعاً ، فليس هو سيرة ذاتية خالصة كتبها الكاتب بنفسه ولا هي رواية تمتاح من مادتها الروائية وتتبع منطقها السردي والزمني وليست هي بالكتاب الشعري الصافي وفق فرضية النقاء النوعي إنها كلُّ هذه الأجناس مجتمعة وهو ما يمنحها شيئاً من الخصوصية ويكسبها صفة النص المتعدد .
(( ولكن هل أنا في هذه اللحظات هو أنا ؟ ام أني أبحثُ عن خاتم رميته في لحظة عبث ؟ أم تُراني أبحثُ عن خاتم الوهم لتبرير ضعف القدرة على دوزنة أوتار نفس ٍ مقطوعة عن
ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، هذا الوهم الذي علّمني لعبة الهرب من المأزق ومن مواجهة أي معضلة ... )) ص 21 من الكتاب ، نحن بإزاء الوهم إذن ، وبوصفنا قراءًفسنجدُ صعوبةً في أن نقبل الكتاب كفصولٍ من سيرة ذاتية ، ذلك إننا سنلقى الحيرة نفسها تتكرر في كل فصل سنقرأه، كيف لنا أن نفرز خيوط الحقيقة عن تلك التي حاكها الوهم؟
هذه العبارة (( نفسٌ مقطوعة عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها )) لوجدنا إننا نقف قُبالة نفس تدور في فلكها الخاص وهي خارجُ زمنها تماماً ، تعوم في مدارها الخاص ،هاهي ذي تبتكر زمنها الخاص ، زمنها اللاأرضي ذاك الذي سيمنحها حرية التمرد على السياق الكرونولوجي الذي يشدّ إليه الأنفس الأرضية وفي إنتقالها من الحاضر الى الماضي ثم الى الحاضر ثانية فالمستقبل فالماضي وهكذا في دورة أبدية الإيقاع تكسرُ المنطق الزمني للسرد وتمنح النص حيويته وفاعليتة.

يقوم كتاب حميد العقابي على متوالية تتضافرمن عاملين ؛ الأول عامل الذكريات المستدعاة من الماضي و,قد شذبت (( ...ينفردُ بذكرياته ، يصلحُ هيأتها ،يرممُ ما تآكل منها )) ً ص 10
والعامل الثاني هو المخيّلة وعملها ، والمخيّلة هنا تقومُ بوظيفة الموازنة في السرد ، إنها هنا المُعادل الفني الذي يحفظ العامل الاول من الوقوع في تقريرية تخلو من الوهج الدلالي والبعد الجمالي .
يبدأ الكتاب بعملية تذكّر يقوم بها الكاتب كلعبة لتزجية الوقت المُتبقي من الرحلة لكن هذة اللعبة تمتلك أظافرها التي تنكأ الجراح (( إن من يتذكّر الماضي المؤلم كمن يُزيل بظفره خثرة الجرح متأملاً الدم وهو ينزف ثانية ))ص13 ومن نقطة التذكر تلك ينساب شريط الزمن مُتنقّلأً بين الأحداث منفلتاً من محددات المنطق السردي ناسجاً زمن الروي الخاص به مُتجنباً الخضوع
نحن بإزاء شخصية تقوم بقراءة صارمة لزمنها سيّما جزأه الماضي ، وهي تصدر حكمها على أحداثه ، مستعرضةً مراحل كانت قد وسمت روح الراوي بميسمها وبعملية الإستدعاء
لمخزون الزمن المنصرم إنما تؤدي النفس عبر فعل الروي فعلاً تطهرياً يقومُ على التخفف من عبء الماضي من طريق إستدعائه - فرشه على مساحة النص - ثم قتله برموزه
( الأب ، المعلم ، الأم الصارمة المُشتهاة ،
لسياق التراتب الزمني .
الحرب بلامنطقها ووحشيتها وجنرالاتها ، التاريخ السياسي الفاسد ، تجارب الحب الفاشلة ، المنفى بوصفه إنقطاعاً عن السماء الأولى )
الكتابة تصير ومن الصفحات الأولى نزيفاً راعفاً لايستطيع الكاتب إلا أن يستسلم له ، إنفلات وحشيٌ سادرٌ كما لوكان صرخة متصلة بعمر لوعتة وفداحتها .
فهو يستعرضُ تاريخةه العائلي بلارحمة (( وعلى الرغم من بلادته إلا أنه كان سريع التأثر وبإمكان أي شخص أن يستفزه .... )) ص33 كان الكاتب يصف أباه بحقد لم يستطع معه إخفاءً ، مقارناً إياه مع شخصية الأم التي يحمل إزاءها شعوراً خاصاً يتحول عشقاً شبقياً (( لم أرها منهارة في أشد الظروف قساوة )) ص32 . الكاتب يمنحنا مثالاً معاصراً لاسطورة
أوديب التي أبدعها سوفوكلس بإعطائه لنا نوذجها الواقعي ، ومقتفياً أثر سوفوكلس يقوم العقابي بتشريح مشاعره - التي إحتفظت بحرارتها كل تلك السنين - إزاء إمّه
((لقد كنت أشعرُ لحظتئذ بحبٍ عميق لأمي ، حبٍ خال من الشفقة ولأكون أكثر صدقاً فقد إستبدت بي هواجس شبقية وشهوة ..)) فالراوي هنا يقوم بقتل الأب معنوياً ليفوز بقلب الأم
المعشوقة ،
يستمر الكتاب بالإيقاع المتوتر نفسه كاشفاً عن قدرة محمودة في إنتخاب التفاصيل المعبرة والتي إستطاعت أن تحافظ على المصداقية الفنية التي لابد منها لكل عمل رصين .
يحاول العقابي في النصف الثاني من كتابه أن يخلق معاددلاً فنيّاً للمكان بإستنباطه لشخصيات وأحداث مستقاة من مكانٍ بهتت صورته بفعل الإنقطاع الطويل عنه لكنة يحاول أن ينفخ فيه الروح بقدرة الفن وحدها ولذلك حين تستنفد السيرة تفاصيلها تبدأ المُخيّلة بردم الهوة وتأسيس سيرة مفترضة.
كتاب حميد العقابي دائرة لها مركز تنطلقُ منه خطوط السرد كُلاً الى وجهته وهي بهذا لاتحفل بتراتب زمني يخظع لمعادلته النطقية المعروفة -ماضي -حاضر -مستقبل بل الى زمن سائل رجراج يجترح صيرورته الخاصّة ،ولعلك تؤخذ بجمالية القص حين تقرا من الصفحات 95 الى 104 تلك البراعة السردية عندما يبتكر الكاتب تأويلاً اسطورياً لفقدان الجدة شمعة لعينها اليسرى مروياً بإسلوبٍ فنّي خالص الروعة نسردٌ له بلاغة الجمال وحده .
كتاب حميد العقابي إضافة مهمة للأدب العراقي الرصين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحزمة نارية عنيفة للاحتلال تستهدف شمال قطاع غزة


.. احتجاج أمام المقر البرلماني للاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ تض




.. عاجل| قوات الاحتلال تحاول التوغل بمخيم جباليا وتطلق النار بك


.. زيلينسكي يحذر من خطورة الوضع على جبهة القتال في منطقة خاركيف




.. لماذا يهدد صعود اليمين مستقبل أوروبا؟