الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قاض نزيه وقضاء مشلول

هويدا طه

2007 / 11 / 2
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


في مسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم التي نشرت عام 1966 كانت الأحداث تدور في عصر المماليك، وكان السلطان يحدد قبل وفاته السلطان التالي بشرط أن يكون النائب المختار حراً، فإن كان عبدا مملوكاً ينبغي عتقه قبل إعلانه وريثا شرعيا للمُلك أو السلطنة، وفي المسرحية اختار السلطان وريثه قبل موته وأعلنه على الملأ لكنه لانشغاله بالحروب حتى وفاته نسي عتق ولي عهده.. فواجه السلطان الجديد معضلة قانونية هي (عدم شرعيته) لأنه عبد والقانون بل كل قوانين وشرائع البشر لا تجيز أن يملك العبد حكم الأحرار، لذا كان سلطانا حائرا يريد الخروج من مأزق عدم شرعيته، فكان أمامه حلان أحدهما القوة/السيف ويمثل هذا الحل الوزير، والآخر القانون والشرع ويمثل هذا الحل القاضي، ودار بين ثلاثتهم جدالا نختار منه نصا ما يلي:
الوزير: ليس من الضروري لمن تسنده القوة أن يلجأ إلى الوثائق والحجج، يكفي أن نعلن على الملأ أن مولانا السلطان قد اعتق عتقا شرعيا بأمر السلطان الراحل قبل وفاته، وأن الوثائق والحجج مسجلة محفوظة لدى قاضي القضاة، والموت لمن يجرؤ على تكذيب ذلك!
القاضي: هنالك شخص سوف يكذب ذلك وهو أنا! إذ لا استطيع الاشتراك في المؤامرة
الوزير: إنها ليست مؤامرة.. إنها خطة لإنقاذ الموقف
القاضي: إنها مؤامرة ضد القانون الذي أمثله
السلطان: القانون؟!
القاضي: نعم أيها السلطان.. القانون.. أنت في نظر الشرع والقانون لست سوى عبد رقيق.. أي أنك شيء من الأشياء ومتاع من الأمتعة، وعلى هذا فأنت فاقد لأهلية التعاقد في المعاملات العادية التي يزاولها بقية الناس الأحرار..
السلطان: يا قاضي القضاة.. المسألة دقيقة..
القاضي: أمامنا طريقان.. طريق السيف وطريق القانون.. أما السيف فلا شأن لي به، وأما القانون فيقول إن العبد الرقيق لا يملك عتقه إلا مولاه وقد توفي مولاك فآلت ملكية العبد لبيت مال المسلمين.... والحل الشرعي أن نطرح مولانا العظيم للبيع في المزاد العلني، ومن يرسو عليه المزاد يعتقه بعد ذلك....
السلطان غاضبا: هل سمعتم هذا القاضي المخرف؟!
الوزير: يطرح مولانا السلطان العظيم للبيع في المزاد العلني هذا هو الجنون بعينه
القاضي: هذا هو الحل القانوني الشرعي!
السلطان والقاضي والوزير! في عصر (قدماء المماليك).. مازالوا هنا أيضا.. في عصر (المماليك الجدد)! سلطان عبد ووزير أحمق وقاضي يعرف القانون لكنه.. مشلول! تذكرت هذه المسرحية عندما تم الإعلان المضحك بأن سلطان دولة المماليك الجدد قام بتوكيل محامي لرفع دعوة قضائية.. ضد من شككوا في شرعيته الصحية التي قد لا تبيح له (التعاقد في المعاملات العادية التي يزاولها بقية الناس الأحرار)! وتذكرتها في تجربتي الخاصة عندما (تنحى القاضي) عن نظر قضية رفعها ضدي جهاز أمن يتستر على سلطان حائر بشأن شرعيته المفقودة ويتولاه وزير جاهز طوال الوقت لسل سيفه لحماية العبد الحائر، يقولها قاضي القضاة( أما طريق السيف فلا شأن لي به)، ويقولها قاضي القضاة أيضا: ليس من حل قانوني إلا بيع هؤلاء العبيد في مزاد علني! (هذا إن وجد في السوق من يشتري مثل هكذا بضاعة)!
نغمة متجبرة على العباد تسود مصر في عصر المماليك الجدد مفادها: (لا تعليق على حكم قضائي) تشبه قولة الوزير الأحمق الجاهز دوما لسل سيفه حماية لسلطان عبد:(الموت لمن يجرؤ على تكذيب ذلك) هذه النغمة المتعجرفة المتجبرة تريد أن تلزم الناس قهرا بالخرس.. بالصمت.. بالإذعان المبين، لكن- وقد تلاحظونها- ظهر مؤخرا في مصر (أنين) من بعض الأحكام القضائية بدأ خافتا حذرا ثم تحول رويدا رويدا إلى محاولة للصراخ بأنه أصبح لنا الحق في (وقفة ما) أمام (شلل قضائي) يسبب عجز القضاة عن تحقيق العدالة .. حتى هؤلاء الذين يتمتعون بينهم بسمعة النزاهة.. أمام جبروت سيوف المماليك الجدد المسلولة ضد المصريين، هذه الوقفة ليست شيئا يطفو فجأة على سطح مصر.. إنها بنت ذلك الأنين الذي بدأ منذ تملك أمرنا هؤلاء المماليك على اختلاف وظائفهم ومواقعهم.. سواء كان منهم سلطان عبد أو وزير أحمق أو أمراء لصوص يعيشون ترفا مبرحا على حساب موت الناس جوعا في مصر.. وبينما يواجه المصريون في اللحظة الراهنة تهاويا مروعا لحائطهم الأخير.. (فالقضاء حائط أخير يتكأ عليه الناس في كل المجتمعات البشرية).. ينبغي علينا أن نبحث في سبل إنقاذ حائطنا الأخير وإنقاذه من وضع (القضاء المشلول) إلى وضع القضاء الذي يطمئن الناس للاتكاء عليه في صراعهم الطويل ضد المماليك الجدد.. وفي التراث القديم لجأ قاض ٍ صغير السن إلى شيخ القضاة وهو في سكرات الموت يسأله نصيحة أخيرة عن العدل فقال له:( يا بني.. العدالة على إطلاقها لن تتمكن من تحقيقها على الأرض.. لكن اجتهد لتحقيق (ظل العدالة على الأرض).. وظل العدالة على الأرض يا بني هو (القانون).. فاجتهد لإرسائه هنا).. القانون ظل العدالة على الأرض.. إذن نحن أمام أمرين يشكلان حائطنا الأخير في مواجهة المماليك الجدد.. القاضي والقانون، متى وكيف يكونان مرسىً للعدالة أو حتى ظلها؟ لن نعير انتباها لقولة الوزير (الموت لمن يجرؤ على تكذيب ذلك.. لا تعليق على حكم قضائي) إذ يحق لنا أن نكذبكم يا مماليك مصر الجدد بحجة الواقع المعاش وخراب العمران الذي أوقعتمونا فيه.. ويحق لنا أن نعلق على أحكام قضائية يصدرها المماليك على ألسنة قضاتهم.. وتذكروا.. يحق لنا لأن القاضي بشر مثلنا.. والقانون يضعه بشر فهو ليس آياتٍ منزلات.
الشرعية المفقودة
لعلك كلما قررت البحث عن (سبب الأزمة) في مصر تجدها تعود لنفس الجذر: غياب الشرعية في رأس الدولة، الأزمات الاقتصادية.. الأزمات الاجتماعية.. الأزمات الأخلاقية.. الأزمات السياسية.. كل الأزمات جذرها واحد.. أننا نعيش في (دولة لا شرعية فيها لمن يقبضون على زمامها)، وأزمة (عدم الاطمئنان للقضاء) التي تبرز يوما بعد يوم في هذا البلد- وهي أزمة خطيرة حقا- هي واحدة بدورها من الأزمات التي يعود سببها إلى (جذر الشرعية)، القانون ينبغي احترامه حين يسنه الأحرار! أي حرية يتمتع بها رجال السلطة التشريعية في بلادنا؟ هل هو حر من يقف في مجلس الشعب يدعو للسلطان وهو يرتجف بطول البقاء؟! كيف يدعو له بطول البقاء ثم يكون قادرا على (سن قانون) يلزمه بالانصراف في وقت محدد وتسليم السلطة لمن ينتخبه الناس بسهولة وسلم وإذعان للمواطنين الأحرار؟ هل هو حر من تتلاعب به سيدة القصر فينفذ أمرها حين تقول اقتلوا هذا واسجنوا ذاك؟ هل هو حر من يسن قانونا لا يستفيد منه إلا سلطان عبد وعائلته ومماليكه الطفيليون؟ المسألة ليست أن قاضيا هنا أو هناك يذعن لسيف الوزير وغضب السلطان وليست أن قانونا يتم الالتواء عليه بل القضية الجذرية عندنا.. من يسن القوانين؟! بأي وازع يسنها؟! ما هي شرعيته؟! نحن في حاجة إلى (ثورة شاملة) تكون إحدى نتائجها أن يسلم سن القوانين لمنتخبين من بيننا لا يسلط على أعناقهم سيف وزير وغضبة سلطان.. نحن في حاجة إلى ثورة تسقط (دولة المماليك الجدد) وتؤسس لدولة جديدة يكون مشرعو قوانينها (آباءً مؤسسين) لدولة جديدة تسن فيها القوانين لصالح الناس الذين يولدون من بطون أمهاتهم أحرارا.. وليست لصالح هذا العبد المملوك أو ذاك، كيف نتحدث عن (سيادة القانون) والقانون نفسه معيبا؟! كيف نطالب بسيادة القانون والقانون نفسه- على سبيل المثال- يجرم صحفيا ينقل الحقيقة؟ ويسجن أصحاب الرأي ويطارد كل من يحلم بدولة جديدة حرة.. تتأسس على شرعية يقبل بها الناس المولودون أحرارا؟ لا نريد تغيير القضاة الآن.. القضاة ليسوا هم مربط الفرس.. فلو كانوا أحرارا لا يهددهم سيف وزير أحمق لما كان مفيدا لهم أن يرضخوا لمن لا سلطة له عليهم.. نحن نريد للقضاة ألا تكون للسلطان ووزيره سلطة عليهم.. نحن نريد تغيير من يسنون القوانين.. وأحد هذه القوانين هو قانون أو حزمة القوانين التي تكبل وتهدد وتتوعد القاضي نفسه.. وتجعله تابعا لسلطان عبد ووزير أحمق.. ولكن كيف نستبدل مشرعين جبناء بمشرعين أحرار؟ مشرعون يعرفون وهم يسنون القوانين أنهم في مأمن من غضب السلطان وسيف وزيره؟ كل تجارب الأمم الأخرى بدأت (أولا) بإزاحة السلطان ووزيره ومماليكه! ثم جاء (الآباء المؤسسون) ووضعوا (القوانين الأم) دون أن تكون على أعناقهم السيوف، فوضعوها برغبة مخلصة شريفة في تحقيق مجتمع مستقر.. وليس برغبة في تجنب ضربة سيف.. فكانت نصوص قوانينهم لا تشبه (قوانين الخوف) السائدة قبلهم.. نحتاج إلى طرح السؤال أمام مفكرينا ومثقفينا وكبراء حكماء هذا البلد.. متى تتشجعون فتعلنون من جانبكم شطب هذه القوانين الآسنة من سجلات بلدنا ووضع قوانين جديدة رغم أنف السلطان.. قوانين جديدة على رأسها (اختيار حاكم بشرعية جديدة لا تبنى على السيف)، فمتى جاء لحكم بلدنا (سلطان حر) سيضع المشرعون بالتالي قوانين عادلة.. وحينها فقط يمكن تحقيق ظل العدالة على الأرض.. حينها فقط يكون لمفهوم (سيادة القانون) معنى، حينها فقط لا يكون القضاء مشلولا ويستطيع قضاتنا النزيهون الحكم بسيادة القانون ونستطيع نحن المواطنون الذين ولدوا من بطون أمهاتهم أحرارا أن يتكئوا (باطمئنان) على حائطهم الأخير.. فلا يكون هناك داع أصلا إلى (التعليق على حكم قضائي) ليس لأن المماليك يهددون بالسيف من يعلق عليه وإنما لأننا نستشعر الاطمئنان إلى سيادة ظل العدالة على الأرض، المسألة إذن أنه من قبيل هدر الوقت أن نناقش (القضاء ووضع القضاة بالنسبة لنا كمواطنين) وإنما ينبغي أن نناقش مباشرة (كيف) نعلن إزاحة الكابوس المملوكي وبدء (تأسيس دولة جديدة بشرعية محترمة) شرعية نستطيع النهوض في ظلها لحل باقي كل الأزمات.. ومن بينها أزمة القضاء المشلول؟ كيف؟ كيف نزيح هؤلاء المماليك؟
استقلال القضاء خطوة على طريق الثورة الشاملة
كعادتنا في مصر- وهذه من جذور أزماتنا الاجتماعية والثقافية- تطفو على السطح حركة (تمرد) من نوع ما ثم تخبو بعد أن ملأت الدنيا.. هكذا كانت حركة مناداة القضاة بالاستقلال عن سيف وزير السلطان، ترعرع الأمل فينا ونحن نتابع إصرارهم على المضي في نيل استقلالهم.. فاستقلالهم هو استقلال لنا وحائط مكين لمطالبنا نطمئن للاتكاء عليه، ثم خبت جذوة التمرد الجميلة لدى القضاة، لكننا ينبغي ألا نيأس.. فطريق (الثورة الشاملة) لتأسيس دولة بشرعية جديدة طريق شاق.. وحتى لا تتشتت الجهود ينبغي أن يقف كل مخلص لهذا البلد وراء حركة القضاة بل ينبغي علينا أن ننفخ في جذوة تمردهم.. لا نتركها تخبو هكذا وكأن شيئا لم يكن.. القضاء المشلول ليس مصيبة القضاة وحدهم إنما هو مصيبة مجتمعنا.. وليس كثيرا أن نحلم.. حلما لا يموت.. بأن يأتي يوم قريب فيكون القضاة باستقلالهم هم (الآباء المؤسسون) لدولة جديدة بشرعية جديدة..
الأحكام القضائية الأخيرة على الصحفيين إذن والتي تشي كم أن قضائنا بات مشلولا.. جراء ضربات سيف يشبه سيف ذاك الوزير الأحمق الذي يريد أن يقهر الناس قهرا ليفرض عليهم (بلع) الرضوخ لسلطان عبد.. هذه الأحكام القضائية لا ينبغي أن تجعلنا نيأس من فكرة (القضاء) ذاتها.. ولا حتى من فكرة أن هناك ما زال قضاة يرفضون أن يتبعون مملوكا يحركهم بطرف سيف.. فالقضاة بشر والخوف لا يرحم البشر.. إنما هذه الأحكام يجب أن تنبهنا إلى (أولويات ثورتنا الشاملة) لبناء دولة جديدة، أولى خطواتنا نحو ثورة شاملة أن نرمم هذا الحائط الأخير.. بل ليس أن نرممه.. إنما نبنه من جديد ودورنا في هذا هو المساندة بكل ما نملك من طاقة لحركة استقلال القضاة.. ليس من أجل قضية فردية هنا أو هناك.. وإنما من أجل الحلم بدولة جديدة تتأسس على شرعية جديدة.. لا خوف فيها من سلطان عبد أو وزيره الأحمق، ولنتذكر أنه حلم مشروع وهناك حكمة آسيوية جميلة تقول: الحلم آخر ما يموت.
المزاد
بقي أن أنقل لكم ما تم في المسرحية.. لقد أصر القاضي على بيع السلطان العبد في مزاد علني.. رضخ السلطان ليس فقط لأنه ضعيف ويعرف أن لا شرعية له.. لا .. إنما لأن القاضي أصر على ذلك.. ولننتبه هنا إلى أن إصرار القاضي حتى والسيف مسلول أمام عينه هو إصرار يؤتي بثماره.. وأيده الحكماء الذين يريدون لبلدهم أن يكون حرا، وفي المزاد اشترت السلطان: امرأة! لكنها رفضت عتقه والتخلي عنه.. قيل لها إن عتقه كان شرطا لشرائه.. لكنها رفضت التخلي عنه فجاءها الوزير الأحمق وقال لها: ستتخلين عنه بهذا السيف، قالت له: لقد فات أوان هذا السيف أيها الوزير.. إنه القانون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي