الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسؤولية المفكرين في ثقب طبقة الأوزون الإيديولوجي

أحمد الخمسي

2007 / 11 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


في الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب، سافر شباب من أقصى شمال المغرب. كان هدفهم الرئيسي هو الاتصال المباشر بالمفكر عبد الله العروي. حضروا واستمعوا للنقاش الذي دار حول روايته الأخيرة (الآفة). ثم تركز الوجدان في نفوسهم ليلمسوا الجانب الإنساني في هذا الهرم الفكري في المغرب والعالم العربي الإسلامي. اقتربوا منه والتمسوا التقاط صورة تذكارية. ربما كان فكر العروي شاردا في ثنايا النقاش الذي دار. ولم تسع مخيلته نظرات الشباب الراغب في التقاط صورة مع مفكرهم المفضل. أو اتصل سلوك العروي اتجاههم ما انتهى إليه العروي في علاقته بمحيطه العاجي.

ومن الناذر أن تجد اشتعال الفكرة موقدة في جمرتها الأصلية/مفكرها المنتج لها، ممتد ضوؤها في أحلام جيل ثالث. يكاد إن لم يكن يحتل موقعا أفضل من المفكرين الأموات المخلدين عبر كتبهم والمذاهب التي ساهموا في تأسيسها. من طراز فلاسفة اليونان والعرب وأنوار أوربا وجهابذة القرنين التاسع عشر والعشرين.

ومن باب الغرابة أن تميل النفوس اليوم للفكر العقلاني المنفصل عن المصير اللاهوتي في الدائرة الميتافيزيقية للحياة والكينونة. لكن الشباب المذكورين أعلاه، من فرط ارتباطهم بزمنهم، وضعوا عبد الله العروي موقع المفكر الخالد حيا. هل التمسوا منه صورة جماعية معهم؟ هل استجاب العروي أم رفض؟

الجواب كما حصل مفترضا، في مختلف الاتجاهات، ليس مهما في حد ذاته. بل المعنى المستخرج منه، هو الذي قد يفصح عن نوعية شخصية العروي في الامتدادات الحية للمفكر المجرد. إذ، يختلف الأثر من مفكر لآخر، ليس بالحجم الكمي لما كتب. وليس بما عمق من أطروحات. لكن بما تمكن من موقعه المكتسب، من مد شرايين الحياة لأفكاره المعدنية المحنطة في الورق.

فجودة الأطروحات وعبقرية الخلاصات لا تنوب عن المقدرة التدبيرية للبيئة الثقافية الاجتماعية السياسية التي تحيى في مائها تلك الأفكار والأطروحات والخلاصات. وبالتالي، قد يصلح عبد الله العروي لما يأتي من الزمن. لكن عبد الله العروي، مستنكف عن الحضور، درجة الجفاء. بل إلى حد الخطو نحو عتبة القبيلة التي انتمى اليها سياسيا. مما يزيد في لف أفكاره في المزيد من الورق الأقل جودة مما هي عليه تلك الأفكار. بل وينقل الجفاء ما بين جودة أفكاره المجردة وانعزالية الجزء الحي البشري من كينونته. مما يلقي به ضمن ملفوفات الزمن الردئ، المتحدث عنه في السياسة. كأن رحمه الفكري متأصل في الانقسامية. داخل نفس الفكرة. ما بين محنطها وحيها في المعاملة.

وللمتربص دوما أن يتابع هذا الرأي ليسفهه بما قد يظهر فيه من تفاهة الحجة. القائمة على التبسيط والحسية الرثة. النازلة بمقام المفكر من محيطه العاجي إلى تفاصيل اليومي.

والرد على هذا الاعتراض المحتمل، في مستويين. فالمفكر الكبير نفسه، علق على الراحل المهدي بنبركة من حيث منهجية التعامل مع الجمهور المستهدف بالاختيار الثوري، كون المهدي لم يكن يستكمل تصوره المجرد ببيداغوجية الارتباط والشرح والتفسير عند الضرورة. مما ترك في نظر العروي اختيارات المهدي خارج مخيلة الجماهير، بأحد المعاني، فلم يتمكن من تحريكها في الاتجاه الصواب المأمول. والقانون العام للمردودية هو درجة التوازن بين التعميق والتعميم، هل يوجد أحد في مستوى عبد الله العروي ليحيل على الإلحاح الذي ظل ماوتسي تونغ يلح عليه في التوازن بين التعميم والتعميق. أما الأمية التي مازالت تلفنا جميعا بصدد العلوم الديمغرافية، رغم وجود الهرم العروي بيننا وفوق أدمغتنا، فيمنعنا الجهل بها من اكتساب القدرة على تخيل التطورات الاقتصادية والثقافية، وبالتالي تعجز السياسة بالضرورة، عما يأتي بعد ربع قرن، عندما كان مالتوس يؤكد أن عدد السكان الذي يتضاعف كل ربع قرن، يزيد من عجز النخب لاستشفاف التحولات ومقتضياتها.

إن عجز نخبنا الموجهة لنا عن استحضار فطالحة الثقافة الأنغلوسكسونية، يأتي من حجز مفكرينا لأفق انتظار سياسيينا في حدود التنظير العقلاني القاري الفرنسي خصوصا اليعقوبي على الأخص. لذلك، ما يعجز عنه الوزير الأول كائنا من كان، تجثم جرثومه في دماغ المفكر أولا وقبل كل دور أو مسؤولية. فقد يأتي زمن قياس الوزن في قناعات المفكر وفي مواقفه. لنجد أنفسنا أمام اختلال بنيوي ما بين سلوك القناعات وسلوك المسؤولية، لدى المفكر قبل السياسي.



والنتيجة، من جملة ما يعاب على عبد الله العروي أنه لم يلقح مدرسة فكرية ولا مد تجربته العلمية والفكرية في شبكة من الهيئات العلمية المرئية. فكأنما الرغبة التي اجتاحته في منتصف السبعينات ليكون مفكر الأمير قصد التشبه بثنائية هيغل وبسمارك، لم تؤت أكلها بما يلي مساعيه لفائدة الإصلاح الاستراتيجي. فنضب معين رغبته في الارتباط مع المحيط من استهداف التأثير التاريخي في الأمير، ثم تجلى النضوب في جفاف فردية المفكر وجفائه تجاه محيطه الحي. حد التنكر البارد. إن كل متربص مستهدف الدفاع عن المفكر( "الأكبر" في سماء الفكر العقلاني في المغرب) سوف يستهجن هذا الرأي القائل بعزلة العروي عن محيطه الفكري والثقافي. لكن الرأي صادر من حصيلة القراءة والقول بأفكار العروي في مدارات الفكر والتاريخ والسياسة، عشرات السنين، في مستويات بلغت مراكز صناعة الموقف الايديولوجي لأجيال من المغاربة. وهم في معترك الفعل السياسي في أقسى لحظاته.

وقد أصبحت مقدمة "العرب والفكر التاريخي" بمثابة شهرة مقدمة ابن خلدون، من فرط مطابقتها لأفق انتظار رؤية الفاعلين السياسيين المتشبثين بالواقع والفكر معا.

لقد اقتسمت أجيال من المغاربة حظوظها مع مصير الكتلة الديمغرافية المسماة شعبا. وعاشت يومها الحركي لزرع أفكارها، مستنكفة عن الاستهلاك وعن كل زبونية تستبدل آمال الشعب بأوهام عبدة الأعيان. وهو ما حول الكثير من السياسيين والمثقفين إلى مجرد أعوان. بالأمس قبل اليوم.

واليوم، وقد أصبحت الثقافة الأنتروبولوجية جزءا من التجديد الفكري والمنهجي في تقليب تربة الأوضاع والأفكار ما بين الثوابت والمتغيرات. رد عبد الله العروي على الناس بتلخيص الهوية في المخزن واللغة والدين. نعم، وهو كذلك عندما نلخص الوجدان في خلية "التيموس" الرسمي في العلاقات الخارجية، كما ذكرت افتتاحية العدد الماضي بصدد استهجان العمل ببروتوكول التعامل بين الدول، على صعيد الخطاب اللغوي. ولا يعدم المطالبون بالأمن المعنوي والرمزي الحد الأدنى المعبر عن الوجود المستقل للذات السياسية.

هكذا، يمكن تحميل المفكر جزءا مما يجري، لأن ما يجري على صعيد السياسة، يظل عاريا، "بلا حماية" على حد التعبير الذي كانت من خلاله إذاعة متوسطية، من خلاله، تشمت في الشعب الجزائري سنوات كارثة الحرب الأهلية الأخيرة.

فثقب طبقة الأوزون الآتي من فوق، باسم الدين، من مسؤولية المفكرين الذين يخلون مكانهم في الغلاف الفكري القاضي بتحصين الكوكب المعيشي من الغازات الأيديولوجية الهابطة باسم الفوق.

فإذا كان البعض منا يجد نفسه أقرب إلى العروي على الصعيد المجرد، فإنه يجد يجد نفسه محميا بما ينتجه الجابري عمليا، للتقليل من خطر الاحتباس الأصولي إن صح التفكير. بعد اتساع ثقب طبقة الأوزون الفكري في السماء الحداثية والعقلانية.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سوليفان في السعودية اليوم وفي إسرائيل غدا.. هل اقتربت الصفقة


.. مستشار الأمن القومي الأميركي يزور السعودية




.. حلمي النمنم: جماعة حسن البنا انتهت إلى الأبد| #حديث_العرب


.. بدء تسيير سفن مساعدات من قبرص إلى غزة بعد انطلاق الجسر الأمي




.. السعودية وإسرائيل.. نتنياهو يعرقل مسار التطبيع بسبب رفضه حل