الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرير ورقم (12)

نبال شمس

2007 / 11 / 7
الادب والفن


التاريخ هو الثاني عشر من الشهر الجاري. حذائي مرسوم عليه رقم (12). سيارتي كُتب عليها ذات الرقم, حتى حامل المفاتيح كان منقوشا عليه هذا الرقم. البناء كان رقم (12) والغرفة رقم (12), وماذا بعد مع هذا الرقم الحقير الذي قرر ملاحقتي اليوم, أصبحت أرى نفسي في هذا الرقم ووجوه الناس والأشجار والسيارات وأعمدة الكهرباء كلها رقم (12), هذا ليس جنون كتابة بل جنون حقيقة وصدفة حدثت معي, فلا اعرف ماذا أقول وماذا أقص على القارئ الذي سيمّل من كلماتي.
عزيزي القارئ - القارئة, وأنا أعرف أن عددكم قليل جدا, ربما أول سؤال يتبادر إلى ذهنكم أثناء قرائتكم للعنوان هو: لماذا نبال اختارت سرير ورقم (12), وما علاقة هذا الرقم بالسرير؟ هذا العنوان ليس من حقي بل أنه ليس لي, انه للأديب الراحل غسان كنفاني, لكن أرجوكم لا تتهموني بالسرقة الأدبية فالصدف هي التي جمعت الأشياء والأمكنة والأحداث. أنا لا أقلد وصعب علي التقليد, اكتب كلماتي بصدق والحروف هي التي تتقاذفني. لا أفتعلها ولا أحب افتعالها, فكيف أن جلست أكتب وأنا كلي دهشة ورهبة وتأرجحا ما بين القول والإحساس.
كنت أمشي وأنا لا أعرف مكانه في المستشفى, مشيت حيث أخذتني قدمي إلى ذات المبنى الذي لم أدخله منذ سنين طويلة, فلست أدري حتى هذه اللحظة ماذا حدث لي, أهو الإحساس والشعور, أم انه هرمون الحاسة السادسة زاد إفرازه عندي وهذا نادرا ما يحدث لي, لكن إحساسي لم يخطئ وأنا كذلك لم أخطئ, بل هو ذاته الذي كان يرقد هناك, فلم يكن أي داع للتبرير في باحات الاستقبال عن مكان وجوده.

سأعود إلى العنوان قليلا, فأنا أعرف باني ألف وأدور, وأعترف بتشتت أفكاري وتخبطي وتخبط حبري مع أناي لكن اعذروني فثمة ارتباط روحي بيني وبين هذا العنوان الذي كُتب فوق نص رائع لأحد الرائعين, فانا اذكر عندما قرأت تلك القصة واعدت قراءتها بكيت من أعماقي. هو العماني ذلك الرجل الفقير الذي جمع شقاء السنين والعذاب والفقر والغربة, هو ذاته الذي جعلني أفعل ما فعلت وأجلس لأكتب نصي هذا.


كنت أتساءل ما الذي ذكرني الآن بذلك السرير الذي أبكاني واحرقني, سرير رقم (12) وما الذي جعلني أفكر بالموت قبل إعلان الحياة, وربما قد لا يكون هناك موتا بل انه مرضا عابرا لكنه حقيرا.
كنت في هذا المكان قبل خمسة سنوات , لم يكن وقتها في الغرفة سرير رقم (12) بل أتيت لعيادة صاحب السرير رقم (10), ومن كان عليه مات وفارق الحياة, ليس تماما كالبطل الفقير الذي كتب عنه الأديب الراحل, لكن الفرق بين موت السرير رقم (10) وموت السرير رقم (12) هو أن العماني في قصة كنفاني مات وحيدا في المستشفى بعيدا عن أهله وعائلته وأطفاله والآخر فارق الحياة وسط ذويه وأولاده دون أي صندوق يحمل شقاء الفقر وعذاب السنين, فربما الأرقام والمكان والموت كلها أسباب مقنعة لتجعلني أتذكر, فأحيانا كم أنا سريعة الاستيعاب والتذكر وأحيانا كم أنا عديمة الاستيعاب.
دخلت الغرفة خائفة ومتصببة بالعرق رغم أن هذا لا يحدث لي في مثل هذه الفترة من الزمن, فكل ما تبدل فقط هي الوجوه التي كانت أمامي والأناس المارين في الأروقة, حتى الممرضات ما زلن هن أنفسهن.
كل شيء كما هو والأسرة ما زالت مرتبة نفس الترتيب. كان راقدا هناك. رقد بهدوء, كان يتكلم ويضحك مع الجميع, وفي مواضيع عدة, فالأمر لم يكن نفس ما تصورت, لكن المكان هو الذي دب الرعب في داخلي والاشمئزاز من الدخول.
وقفت بجانب السرير, قهوتي لم يكن لها أي طعم, فلا طعم للقهوة في تلك الأمكنة ولا طعم للزهور التي يحضرها الزوار بعيادة المرضى. تأملاتي في تلك اللحظات كانت مفزعة, أخذتني إلى العالم الآخر, فرحت أرى الأسرّة فارغة والأرواح تخرج من الباب تاركة أجسادا ضعيفة خلفها, وأنا وحيدة في ذلك المكان رغم أن من تواجد حولي من الناس كانوا يكلموني ويتكلمون مع بعض أو في هواتفهم النقالة, لكني فعلا كنت وحيدة وغريبة, فماذا حدث للمرضى ولأرواحهم, لماذا أراها تطير وتترك المكان, لكني أدرك تجاوزاتي وأدرك تأملاتي. تساءلت إذا كنت أطير مثلهم لكني مكاني اشعر بثقلي على الأرض وقدمي المورمتين من الكعب العالي, فهراء مني وغباء أن أشرك الحاضرين بشعوري وتفكيري في ظروف كهذه, أو عن الصدفة التي ارويها الآن, فالكتمان هو من أسهل الامور في مثل هذه الحالات,فهل سيحدث له كما حدث للعماني وللرجل الذي رقد على سرير رقم (10)؟

مضى الوقت مسرعا, خرجت باردة الأنامل زرقاء الشفتين, لا اعرف ماذا دهاني, ولاين أخذني فكري. وقدرة الاستيعاب والتذكر التي هبطت علي فجأة دون سابق إنذار. العماني يلاحقني في الأمكنة وروايات كنفاني تذكرتها كلها, تذكرت كل ما قرأت له من كتب, لكن من سيصدق ما حدث معي الذي هو شبه هرطقات لا أكثر من ذلك.
وصلت موقف السيارات خلعت حذائي المجنون فالشرطة لا تخالف على قيادة السيارة بدون حذاء, لكنه ذلك الحذاء اللعين الذي جعلني أُمَسمر مكاني وزاد ثقلي على الأرض, فلم أستطع الطيران مع الأرواح المتزاحمة للعبور. رميت حقيبتي من يدي محاولة أن أستوعب الذي جرى, فإذا بي أرى إحدى عشرة روحا تتزاحم ثانية فوق نصي, وصاحب السرير الذي زرته كان ما زال مكانه يضاحك الجميع ويتكلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة