الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ورابعهم المتنبي (1)

عدنان الظاهر

2007 / 11 / 8
الادب والفن


طلبتُ بالتلفون من صاحبي المتنبي أن يستعدَّ للقيام بزيارة قد تُعدُّ إحدى زيارات وسفرات العمر النادرة . قال إني مستعد ولكن ، ألا يحق لي أن أسألك عن الهدف من هذه السفرة وعمّن سنزور إذا كان هناك ثمّةَ مَن سنزور ؟ معك كل الحق يا أبا الطيّب ويا كثير الطيبة ، معك حق ، سنزور كاتبة وروائية فلسطينية تقيم اليوم في أستراليا البعيدة فما رأيك . قال ما إسمها ؟ السيدة ( دينا سليم ) . علّق صاحبي على الفور والبهجة تغمر صوته : والنعم والنعم ، إنها تستحق أكثر من زيارة ... والنعم واللهِ والنعم ، ألا إنها لنعمَ السيدة ولنعمَ القاصّة . ذهلتُ ، نعم ، ذهلتُ فسألتُ وهل تعرف ( دينا سليم ) ؟ قال أجلْ ، أعرفها منذُ أن كانت تتنقل ما بين غزة فلسطين ومدينة ( السلط ) الأردنية ثم وهي تقضي بعض شهور الصيف على سواحل جزيرة ( كريت ) اليونانية . هناك إلتقيتها ذات يوم صيفي معتدل الشمس فدعتني للجلوس معها على ساحل البحر للتمتع بصولته وبهائه وجبروته ورمال الساحل ثم لمناقشة الكثير من شؤون الأدب والشعر والقصة والرواية . كنتُ ما زلتُ ذاهلاً مما يقول المتنبي . سألته وهل أعجبتك هذه السيدة الفلسطينية ؟ قال إي واللهِ ، أعجبتني وتركت لديَّ أفضل إنطباع عنها سيدةً وكاتبة ً وإنسانةً . سُررتُ وقد وصلت والمتنبي إلى هذه النقطة الكثيرة الحساسية من موضوعة اليوم ، أعني أن نزورها بصحبة سيدة ثالثة فإنها على علم بمشروعي هذا فلقد سبق وأن أخبرتها بتفاصيله وكشفتُ لها هوية مَن سيرافقني في هذه الزيارة . هي إذا ً تعرف المتنبي كما تعرفني لكنها ستتعرف لأول مرة على شابة مثلها تكتب القصص سأقدمها لها ولا أدري كيف ستتعامل معها .
كانت ( دينا سليم ) في إستقبالنا على أرض مطار ( كوينزلاند ) في أستراليا ... وبعد توقف قصير قالت إنها ستأخذنا بسيارتها الخاصة إلى ساحل البحر حيث أعدّت لنا مفاجأة سارة ... أن نتناول طعام الغداء هناك على الساحل الرملي فلقد جهزت الطعام والمشروبات منذ الصباح الباكر . وهناك سنخوض في دنيا الأدب وعوالم القص والرواية وربما نلعب ونخوض في مياه البحر المالحة . تخففنا من بعض ما نرتدي وجلس بعضنا على الكراسي وفضّل بعضنا الآخر الجلوس أو الإنبطاح على الرمل . سألت ( دينا سليم ) أثناء تناول الطعام عن السيدة الشابة وهي ثالثة مّن حضر المأدبة فأجاب المتنبي إنها غريبة عليه فوجّهت السؤال لي فأجبت فوراً : إنها شمسي التي غابت عني ولم تشرق ثانيةً وأغلب ظني إنها سوف لن تعاود الشروق !! صُعق المتنبي بينما كتمت مضيّفتنا إستغرابها من قولي وتظاهرت بتجهيز المزيد من ألوان الأطعمة التي أجادت طبخها وأحسنت إعدادها الأمر الذي أراحني كثيراً . فقد المتنبي صبره وكياسته فأصرَّ على ملاحقتي وإحراجي عَلناً فقال : كيف تقولُ إنها شمسك التي غابت عنك وهي حاضرة معنا جالسةً بالقرب منك حتى ليكاد كتفها يلامس ذراعك ؟ أفلا تحس بكل هذا الحضور ؟ تذكّرتُ رد أميرالدنمارك ( هاملت ) على سؤال عمه ( كلوديوس ) وزوج أمه
( جيرترود ) وقد سأله قائلاً : ما لي أرى السحب مخيمة ً عليك ؟ ردَّ هاملتْ : كلا يا سيدي ، بل إنني في الشمس أكثر مما يجب !! الشمس كل الشمس أمامي ، معي ، تجلس بجانبي حدَّ تلاصق الأكتاف ، ومع ذلك فإني لا أراها ، لا أرى شيئاً منها البتة !! صرتُ أتساءل بإلحاح مع نفسي : أين شمسي التي ما كانت لتغيبَ عني ؟ أين غابت وكيف غابت ولِمَ غابت ؟ نسيتُ ما وضعت ( دينا ) أمامي من طعام ومشروبات كحولية والخالية من الكحول . سرحتُ في عالم آخر لا أود كشفه لأحد من العالمين بعد أن تعهدتُ لها أن لا أكتب عنها وأن لا أتقرب منها وأن لا أكشف شيئاً مما كان بيننا وها إني أنفذ ُ ما تعهدتُ . إنتبه صحبي لما أنا فيه من حالة غياب وذهول . رفعوا كؤوسهم عالياً ثم صاحوا : نخبك ونخب صحتك يا رجل !! نخب شمسك التي لا تغيب يا ذاهل عن دنياك !! رفعوا فرفعتُ كأساً فارغةً إلا من بقايا أشعة شمس غابت عني منذ قرون وقرون . بين الكؤوس ولذيذ الطعام وبهجة الجلسة على الرمل أمام البحر المهيب والضحكات الدافئة المفعمة بالوداد والثقة المتبادلة بين الأصدقاء وزملاء الشعر والأدب ... إزداد شعوري بالغياب المزدوج ... غياب شمسي عن ناظري رغم حضورها بيننا ثم غيبتي أنا عن أعين الباقين . نبهني المتنبي إذ سألني : أتودُ أن أقول شيئاً في أمر الغياب والحضور يا أيها الساهم الذاهل ؟ قلت أجلْ ، قلْ شيئاً يفيد المناسبة . أنشد المتنبي بصوته الثوروي الجهوري الفخم الجرس :

فليتَ طالعة َ الشمسين ِ غائبة ٌ
وليتَ غائبة َ الشمسين ِ لم تغب ِ

تعالى صوت ( دينا ) الله الله الله !! يا متنبي يا شاعر !! أتنحاز لصديقك وتجامله إلى حد أن تتمنى أن تغيب عنا هذه الشمس الخريفية الودودة وودها نادر في أستراليا كما تعلم ومن أجل أمر شديد الغرابة هو أن تظهر لصديقك هذا شمسا ً هي في الواقع والحقيقة ليست غائبة ، هي موجودة معنا لكن المسكين يحسب أنها غائبة عنه ولا من وجود لها بيننا !! تناول المتنبي كأسه وشرب منها شيئاً يسيراً ، قطّب حاجبيه بجد وصرامة ثم همس في أُذن ( دينا ) بضعة كلمات إلتقطتها لسوء حظ المتنبي وحسن حظي . قال لها [[ أخشى أنْ قد نال صاحبنا بعضُ مس ٍ أو خبال ]] . نفت ذلك ( دينا ) بشدة وإحتجت فتركت مكانها وإتخذت لها مكاناً بجانب صاحب الشمس الملتبس عليه أمرُها . قالت له بكل مودة ورفق : عزيزي وضيفي الأكرم ، أصحيح أنك لا ترى ولا تحس بوجود شمس معنا وبجوارك ؟ لم يردْ ، واصل شروده وسياحته في عوالم أخرى . أعادت سؤالها عليه فتبسمَّ وإفتعل الجد حين قال : سيدتي الروائية الفذة ، عن أية شمس تتكلمين ؟ لا أرى هنا شمساً ولا قمراً ولا نجماً ... إني أراك ، أحس بك وبوجودك الفيزيائي البارد وأتحسس روحك الدافئ ، وأرى المتنبي الشاعر الذي فارقه وقاره هذا اليوم بعد إن إحتسى كأسَ بيرة لا غير . هل ترين سيدتي غيري وغير المتنبي في هذا المكان على رمال ساحل البحر ؟ باللهِ عليك أجيبي . ظهرت علامات الحيرة على محيا ( دينا / أم باسم ).
عجزت عن الجواب إحتراماً لمشاعر ووضع هذا الرجل الذي يدّعي إنه قد فقد شمساً ما كانت لتغيبَ عنه . تململت ثم قالت : الشمس تغيب عادة ً في المغرب لكنها تظهر في المشرق ... فلا من غروب وغياب دائم ولا من شروق وحضور دائم . قال هذا منطقك سيدتي لكنَّ لي منطقي الخاص وقناعاتي الخاصة . إعتذرت وإنسحبت منصرفة لمداراة وخدمة ضيفتها الكاتبة الشابة التي تلتقيها لأول مرة في حياتها . سألتها أسئلة ما كنت قادراً أنْ أفهم فحواها ، وردت عليها بكلام غامض عليَّ ، شديد الغموض . عمَّ تكلمت السيدتان وما دار بينهما من أحاديث ؟ لا أدري ، لعل المتنبي وحده مَن يدري ، فإنه هو المتنبي لا أنا . أحسست فجأة بالجوع وبعض الظمأ أطفأته بتناول المزيد من كؤوس البيرة الأسترالية المثلجة وبعض الفاكهة والخيار والفستق الحلبي الذي يأتي ( دينا ) من فلسطين حيناً ومن الأردن وبيروت أحيانا . ما أكرمَ نفس ويد هذه السيدة التي يحلو لي أن أخاطبها في ساعات صحوي وتخيلي : إنما أنتِ شمسي التي لم تزلْ معي تدور حولي كما زهور عبّاد الشمس ... وأن أدعوها مداعباً وجادّا ً : يا كل دنياي وبعض ديني ... يا ( سادينا ) ... يا سادينا ... كانت تضحك بل وتغرق بالضحك حتى يحمّر خداها وتغرورق عيناها ببريق ِ سائل ٍ كثيف القوام حلو المذاق لا هو بالدمع ولا بالعسل . تدخل المتنبي ثانيةً ليقول لي : لم تأتنا بشئ جديد يا هذا ، إسرحْ حيث كنتَ ودعْ ( دينا ) ودنيانا لنا وأترك شؤون الدين لأهله . لم تأتنا بجديد بخصوص
( سادينا ) ومشتقاتها ... إنه إسم وعنوان رواية جديدة للسيدة ( دينا سليم ) كتبتها ونشرتها مع شاعر عراقي يُدعى ( سعد حمزة ) . فما الذي ـ أضاف المتنبي ـ دعاك لأن تتفلسف وتصّرف الأسماء الحسنى ففي بعض التصريفات إساءة ومع الإفراط بالإشتقاقات قد يأتي سوء الظن [ وإنَّ بعض الظن إثم ٌ ] كما يعلم جنابكم . لم أتفلسف يا متنبي ـ رددتُ مُغضباً ـ إنما كنت أقول لها هذا الكلام حين أكون في حالة صحو وحضور ومن باب الدعابة وهي خير مّن يتفهم النكتة البريئة والدعابة الخفيفة فإنها كاتبة حساسة وذكية بإعترافها هي . ثم ، هل عينتك محامياً تدافع بالباطل عنها ؟ إنها أكفأ منك وأقدر في الدفاع عن نفسها وعن مصالحها كافة ً ، التاكتيكية منها والستراتيجية ... إنفجرت السيدة ضاحكةً بصوت عالٍ وشاركتها ضحكها شمسي التي لم تزلْ غائبة ً عني فإختلط الضحك على المتنبي وتعقد أمره وموقفه وقد أفلحتُ في إدارة إتجاه دفة السفين وقلبت الأمور على رأس المتنبي وعريته أمام كاتبتين فشعر بالحَرَج وإعتذر فإنسحب يجرجر أذيال الخيبة والشعور بالخطأ والهوان فإنكمش كالجرذ على نفسه يداري ما هو فيه بالإنصراف إلى تناول المزيد من الطعام والشراب والدندنة الغامضة الإيقاع . وقع المتنبي أخيراً في الفخ الذي نصبتُ . صار أضحوكة السيدات ويا أم إرحميني ...، وللخروج من أزمته القاتلة سألني بإنكسار وذلة : متى نأوبُ لأوطاننا يا صديق ؟ متى شئتَ يا صديق ، أجبته . قال الآن . كما تحب ، إعتذرْ وأطلب الإذن لنا بالمغادرة من السيدة التي أكرمت مثوانا وقامت بواجب الضيافة أفضل قيام . أهدتْ كلَّ واحدِ منا ثلاثة من كتبها مشكورة فتعهد المتنبي أن يحاول أن يكتب شيئاً عنها جميعاً أو عن بعضها أو عن المؤلفة نفسها ... تعريفاً أو تقديماً أو دراسة نقدية أو ما شابه ذلك . قدّمت للمتنبي نسخة ً من كتابها
( سادينا ) مع كلمة إهداء قالت فيها [[ إلى الصديق الأخ أبي الطيّب المتنبي / هي دعوة للحب والمحبة الصادقة ربما " سادينا " تكونُ أولى خطوة إلى هذا المسار الذي أصبح صعباً وشائكاً . أرجو أنْ يجدَ القارئ ضالته !! . مع تحياتي / الكاتبة الروائية دينا سليم . أستراليا . 26 . 10 . 2007 ]] . كما أهدتني نسخة ً من روايتها الموسومة " الحُلُم المزدوَج " مع مقدمة رقيقة مؤثرة جداً كتبت فيها [[ زميلي عدنان / لك حلمي ، لعل الحلم الهارب منا يتحقق . مع أوفى تحياتي . الكاتبة الروائية دينا سليم . أستراليا ، 26.10.2007 ]] . كانت تمسك بيدها وبكل حنان روايتها الثالثة التي تحمل عنوان " تراتيل عزاء البحر " . كان واضحاً أنها قد أعدتها لتقدمها هديةً لإمرأة كانت من بين ضيوفها تراها وتكلمها لكني لا أراها ولا أحس بها ولها وجوداً في تلكم المناسبة ، هي بالطبع شمسي الغائبة التي ما كانت أبداً لتغيب عن أفق حياتي . وهل يرى إمرؤ عاقل شمساً غائبة ً أو ليس لها من وجود في هذا الكون ؟ دينا والمتنبي يريانها فمن هو العاقل فينا ؟! فتحت ( دينا ) الصفحة الأولى من هذه الرواية السوداوية العنوان ثم قرأتْ [[ زميلتي وصديقتي وشمس صديقنا الهائم الولهان عدنان الذي لا يراكِ ويدّعي غيابك عنه / لا أصدقَ من كلمات ٍ تحملها دفتا كتاب ، مع أصدق تحياتي . الكاتبة الروائية دينا سليم ( بريزبن ) أستراليا ، 26.10.2007 ]] .
قبّلت ( دينا ) قبيل المغادرة جبين المتنبي وخدي الشمس الغائبة وحين دنت مني لتضع قبلة على جبيني تراجعتُ معتذراً وقلتُ لها : إنما توضع قبلة الجبين على جبهة الشخص المتوفي وأنا ما زلتُ حياً كما ترينني أنتِ وكما تراني الشمس الغائبة !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف