الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
باب الحارة
بشير عاني
2007 / 11 / 9مواضيع وابحاث سياسية
لم يلق أي مسلسل سوري، وربما عربي, مثل هذا الاهتمام وهذا النجاح الذي لقيه مسلسل باب الحارة، وهذه إحدى الحقائق الفنية التي لايمكن تجاهلها أو التعامي عنها .
في الوقت نفسه لايمكن إهمال حقيقة أخرى تمثلت بمدى الانقسام ( الثقافي ) حول المضامين الفكرية والاجتماعية والسياسية التي حاول المسلسل عرضها وهو ما قاد إلى خلافات واسعة في وجهات النظر، ففيما رآه البعض عملا دراميا معبأ بما تصبو له النفس من الأخلاقيات الاجتماعية والقيم الأخرى كالشهامة والرجولة ومشغولا بذكاء وحرفية عالية، لم يجد فيه البعض الآخر سوى دراما تساهم في تكريس التخلف الاجتماعي عبر الدعوة لإنتاج صيغ حياة ماضوية فيها الكثير من الحنين لقيم العدل والبراءة والطمأنينة التي فشل الحاضر العربي في إنتاج مفردات وجودية لما يشابها في المجتمع والحياة .
أما سياسيا فقد فسر البعض هذا المسلسل كشكل من أشكال الدعاوى للـ ( فيدرالية ) القادمة إلى المنطقة على العجلات الأمريكية، وهو بنظرهم ليس سوى رسالة مطمئنة لهذا الشكل السياسي الذي يُناقش اليوم على أعلى المستويات الدولية لتمرير إحدى صيغه للمنطقة عبر البوابة العراقية، وهو أمر قابل للسحب والتعميم على دول أخرى بسبب الإشكالات الإثنية والطائفية وغيرها من القطع التاريخية التي مازالت تجد لها مكانا في الصدارة الاجتماعية العربية والإسلامية عموما .
بعد تراجع السياسة والتدهور الذي حصل في البنيان الفتي للدولة الحديثة الناشئة في نهاية الخمسينات وبروز ما يسمى بالأنظمة الشمولية التي أجهزت على المسافة الهامة التي قطعتها المجتمعات العربية سياسيا وحقوقيا ومدنيا وفكريا كان لابد أن تتراجع أحلام المواطن العربي ومطالبه في رحلة البحث المضني عن شكل ما لحمايته وصون ما تبقى له من كرامة، لذا كان من الطبيعي أن يُعاد إحياء ما ظن الجميع أنه قد مات واندثر نهائيا كالعشيرة والطائفة والحارة لتجد ( مهزلة ) ماركس ، المتمثلة بإعادة التاريخ إنتاج نفسه، تطبيقات مثالية لها في مجتمعاتنا العربية، ففي مطلع الخمسينيات مثلا كان يمكن لرجال الفكر والسياسة أن يجدوا الحاضنة الاجتماعية التي تعشش فيها أفكارهم ورؤاهم السياسية وتمكنهم من حجز مقاعدهم في البرلمان أو الحكومة أو غيرها من المؤسسات التنفيذية والتشريعية ( على سبيل المثال : خالد بكداش – جلال السيد – هاشم الأناسي وغيرهم )، مثلما كانت تمكنهم من إقصاء خصومهم التاريخيين المتمثلين بالتجار ورموز الإقطاع والعشائر والتيارات الدينية، وهو الأمر الذي لم يعد قابلا للتحقق، بعد نصف قرن من بزوغه وتجريبه، إلا بأشكال سياسية مشوهة مثلت صيغا ملتوية لديمقراطية ملتبسة وعرجاء .
اليوم لا تستعيد هذه المجتمعات ما تم إلقاءه منذ عقود في ( مزابل التاريخ )، بل ترتمي بحنين مَرَضي، إلى الوراء أكثر فأكثر، لائذة بالـ ( الغيتو)، حيث الحارة العربية الكتيمة، بنمطيتها وأعرافها المخلوطة بالدين والتاريخ والبداوة .
في وقت ما، كانت الحواري قادرة على العيش بمعزل عن بعضها، مكتفية بنفسها وآمنة إلى حد كبير، فلكل حارة شعبها وحكومتها ( أبو عصام وأبو حاتم وأبو بشير وأبو ... الخ ) وجهاز أمنها ( العكيد ) ورئيسها ( الزعيم )، وكذلك أعدائها الواقعيين والمفترضين إلى كل ما هنالك من متطلبات ( الغيتو ) الذي عرفته معظم المدن السورية في وقت من الأوقات قبل أن تتعرض لخضات كبيرة في الوعي السياسي والاجتماعي وانتقالات ملحوظة في التعليم والبنى الاقتصادية، قادت إلى فتح المجتمع واتساع حدوده الإنسانية .
على كل حال فإن باب الحارة قد تسبب في انقسام الناس حوله بين مؤيد ومعارض، ويبدو أن هذا الانقسام في الرأي والتذوق هو أحد أهم أسرار هذا العمل الدرامي، وللأسف فقد أهملت مناقشته بشكل كاف تحت تأثير نشوة جماهيريته ونجاحه في استقطاب المشاهد العربي عموما، وهو ما كان مفاجئا، لذا انساق الجميع لتدبيج مدائح ومطولات تثني على العمل وتشيد بمحتواه القيمي والتراثي والفني .
في غمرة كل ذلك نسي الجميع طرح ذلك السؤال الخطير : لماذا نجح باب الحارة في استقطاب المشاهد العربي عموما رغم انه مسلسل سوري من بابه إلى محرابه ؟
قد تبدو الإجابة بسيطة لأول وهلة، إلا أنها في الحقيقة غاية في التعقيد، فهي خلطة عجيبة من السياسي والتاريخي والاجتماعي والحقوقي تسببت بها هزائم العربي الطويلة والتي كان آخرها انكسار مشاريعه الكبرى ( القومي والاشتراكي والليبرالي ) وهذا ما شكل ذائقته وحساسيته ومزاجه الجديد الذي يغلب عليه النكوص والارتداد بحثا عن حلول حتى لو كانت على طريقة الحارات والخناجر والقبضايات .
في مطلع السبعينات كان ياسين الحافظ يراقب بإمعان التراجع الحاصل في المجتمع العربي والدولة الناشئة حديثا، محذرا، في كتابه ( الهزيمة والايدولوجيا المهزومة ) الصادر عام 1978، من خطورة العودة إلى الوراء التاريخي، ففي ظل تراجع المشروع القومي وتشظي الدولة الوطنية ( القطرية ) سيتراجع المجتمع السياسي وستتبدى للعيان الأشكال ( ما قبل قومية ) كالطائفية والمذهبية والعشائرية و المناطقية والعائلية وهي بالمحصلة ليست سوى انعكاس نهائي للتخلف الطويل الذي قاد، وسيقود إلى الهزائم الطويلة .
وعليه فان ( الحارة )، بأبوابها الكثيرة، ليست سوى انتصار ليقين ماضوي يستعيده الجمهور العربي الباحث عن كرامته وهويته ورائحة ما لمواطنته الناقصة .
إلى أي درك وصلنا .. ؟
اليوم، ونحن نعيش تجربة القرية الكونية لا يسعنا إلا أن نقول :
ويل لأمة وصل بها الدرك للقناعة بأن القبضايات والحواري قد باتت حصنها وملاذها الأخير ؟
بشير عاني : شاعر وصحفي سوري
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز