الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصورة الشعرية بين الذاكرة والمخيال في نصوص الشاعر الإماراتي إبراهيم محمد إبراهيم

فاطمة الشيدي

2007 / 11 / 10
الادب والفن


الكتابةُ متحفٌ
تتساقطُ جدرانُ خزائنهِ.
والنفسُ في التصفحِ غبارُ
ت.س اليوت

يقف أي نصٍ شعري على حافةِ مستوجبات بلاغية، وممكنات نقدية، تنتظر من يكشف حجبها، ويستبين ملامح دهشتها التي غالبا ما تكمن في جمالية الصورة المبتكرة، من فيوضِ خيال شعريٍّ ولاّدٍ، أو المقتنصة من واقعٍ قريبٍ تتراسم صورهُ في ذهنيةِ الناصِ بتتابعاتٍ خاصةٍ وتشكيلاتٍ ذاتيةٍ .
الصورةُ هي حالُ النصِ، وبهجةُ مراوغاتهِ في قولِ هواجسه، بتشكيلات لونيةٍ وصوتية غير مسبوقةٍ، وهي التي تهَبُ له أحقيةَ الشعرية كمسمى للنص، حتى يكاد يكون النص الشعري هو صورهُ التي لا يمكن أن يشكِّلَ خارجَها قيمتُهُ الفنيةُ الشعريةُ.
والمتتبعُ لتجربةِ الشاعر الإماراتي إبراهيم محمد إبراهيم يجدُ لديهِ اتجاهاً شعرياً خاصاً من حيث الأسلوبِ، واللغةِ، والإيقاعِ، أسسَ له بوعيٍ شعريٍ قصديٍ، فهو يكتبُ وينشر بهدوءٍ نسبيٍّ خارج دوائر الدعائيات الشعرية، والضجة الافتعالية لتقديم ذاتاً مضخَّمة عبر قنواتِ الظهور العلنيِّ كالصحف والإنترنت، مقدماً عبر هذه التجربة عدةَ مجموعات شعرية منذ عام 1990حيث نشر أول مجموعة شعرية وحتى الآن.
إن تجلياتِ الصورة الشعرية في نصوصِ الشاعر تخاتل النص والقارئ بكونِها تجيءُ حميمةً، وخاصةً وغير متكلفةٍ، في انبعاثاتها الحيوية والطبيعية بين متن النص المتشكِّلِ من طين اللغة الليّن، وتكويناتِها المتصاعدةِ بخفة من شاعرِها نحو متلقيها.
إنها الشعرية المنطلقة من جنونِ شاعرِها وطبعهِ غير الكلِفِ بالصنعة ولكنه مأخوذ بالتماهي مع داخلِهِ الذي يشكّل عوالمه السرانيّة المتحرقةِ بالمودة، والمتراخيةِ بالشعر لكتابتهِ بروحٍ وعاطفةٍ وخيالٍ، والتماهي مع الخارجِ الذي يشكِّل عوالماً لا تنفصلُ عنها ذاتيةُ الشاعر الملتحمةُ به بزوايا مختلفةٍ، بحدة قضاياهُ وحرارةِ واقعهِ الذي يقتضي تعبيرا مغايرا.
إن فتنة الشاعر بتخليقِ صورهِ من مزجهِ بين ما لا يمتزج، سواءً كان مزج اليومي بالتاريخي، أو الخاص بالعام، أو المحسوسِ بالمجرَّدِ هو الذي يهَبُ لصورهِ رنينَها الخاص، ويجعلُها تسيرُ في مأمنٍ من تلاقي الأشباهِ في متاهةٍ شعريةٍ تعجُ بالكثيرِ من الشعراءِ وبالقليل من الشعر .
يقول موازيا في صورةِ الرحيل لبدويٍ منفلتٍ من كونهِ، ونسيمٍ عابرٍ يتماس مع سعفِ النخيل ويشعلُه ولهاً ، في صورتين متناظرتين في مرايا النص الشعري، فما الراحلُ سوى عاشقٍ هجرَ الحياةَ، ملتفاً على الصورةِ بصورةِ النسيمِ يحرك سعفَ النخيلِ.

راحلٌ

حبلُهُ في يديه ِ
وقبضةُ تمرٍ وماءْ .

كالنسيم ِ إذا مرّ في الليل ِ ،
سرّحَ سعفَ النخيل ِ
وألهبَهُ صبوةً ..

إلا أن الصورةَ الشعرية لدى إبراهيم محمد إبراهيم رغم جماليةِ فوضاها، وتبعثرِها الضمني ذاتَ دلالةٍ منطلقةٍ من وعيٍ عميقٍ بثقافةِ المعنى وقيمةِ حضورهِ في النصِ، خارجَ التهويمات النصيّةِ في بعض النصوصِ الشعرية المعاصرةِ التي تسيرُ وفقَ ثقافةِ اللامعنى السائدةِ على حدِ تعبير الأستاذ الدكتور زياد الزعبي .
يقول :
وأسندتُ رأسي على كتِفِ الحُزن ِ
أغمضْتُ عينَيَّ ،

والوقتُ منتبِهٌ
يتوغّلُ في النسبِ العربيّ برِفقٍ ..

( هنا القُدس)
قال المُذيعّ ، وماتْ .

فالصورةُ هنا مركبةٌ من عدة زوايا وشخوصٍ، كما أنها صورةٌ سينمائيةٌ متحركةٌ فالرجل (الشاعر) الذي لم يجد مكاناً أكثر دعة يتكأ عليه من كتفِ الحزن أغمضَ عينيهِ أمام جليسهِ الوقت المنتبه والي يتشكل وفق حركةٍ ما، والمذيع لم يمهله الوقت فمات .
لكنها في المقابل صورة شعرية مقترحة الحضور وفق رؤيةٍ خاصة أو مبتغاةٍ من قبل شاعرِها، تبني أفقَها من ايحاءاتِ المخيال الشعري، خارج تشيؤ الواقعية الحادِ والممنطق وفق المعقول والعادي أو اليومي .
في حين يصبحُ أكثرَ اقتراب من الواقع في صورةٍ أخرى ومندمجا في حضورها واستحضار ملامحها، دون أن يثقلَها برفعة الشعرية المرسومة والمتشكلةِ بمنطق اللامعقول في كثير من الأحيان .
حيث يقول :
عندَ بابِ المدينةِ،
ودّعتُ قلبي ..
لأدخُلَ مُسترشِداً بِخُطى العابِرينَ
لعلّي أرى أحداً يشتري الوهمَ
لكِنّني لم أجِدْ.

خِلتُ أنّي سأُفلِحُ،
في دسِّ بعضِ النّوايا القديمةِ
في السّوقِ،

خِلتُ الصّعاليكَ،
لمّا يَزَلْ بعضُهُمْ يتذكّرْ

فالصورةُ الممتدة أشبه بمشهدٍ من مسلسل قديمٍ بالأبيض والأسود، حيث يعيد توظيف الإشارات الداخلية في مشهدٍ طبيعي ومتكرر لرجل يدخل للمدينة كغريب، بعد سنوات من الغياب، إنها حالة تذكر قصوى يبطل فيها مفعولُ القلبِ حيث يتركُه عند بابِ المدينةِ كأنه لم يعد صالحاً للولوج معه لهذه البقعةِ، وفقط الذاكرة هي الأجدرُ بأن ترافقه لكونهِ يدخلُ مفعما بالأمنياتِ التي لا تتحقق .
هكذا يضعُ الشاعرُ قارئَهُ في حالةٍ من الحيرة، ليبحث( أي القارئ) عن أناهُ في هذا الحيز المكاني/ النفسي، هل كان مرافقا للشاعر، أم أنه تركهُ عند حدود المدينة، في ذلك القلب الذي ودعه، ليلاقيه خارج المدينة (التي قابلت صورة السوق فيما بعد ليصبح المكانان في تتالي مجتمعي المدينة =السوق ) ليخفف عنه حدة الخسارة التي خرج بها .
وهو أكثر تقاربا مع واقعه حيث يقول :
في سُترتِهِ يَندسُّ

مُنكفئاً

يتحرّى الكونَ
ويرسمهُ حسبَ رؤاهُ.

فالزّحمةُ تُبعِدُهُ عنهُ،

وتفاهاتُ الشارعِ
تُقصيهِ عن بعضِ سجاياهُ.

فهي صورةٌ قريبة (بورتريه) لكل شاعرٍ، فالشاعرُ الذي تحتشدُ فيه سجايا الغربةِ والرعبِ في كل عصورِ الكونيةِ- كصورةٍ مفترضةٍ غالبا- طفلٌ لايملك سوى دهشة الداخل وغياب عن خارجٍ لابتغيه وهو متغاير معه ضرورة، وكلما اقترب منه (أي الشارع) ابتعد عنه أي الشاعر داخله، وفي هذا الجناس الناقص يكمن الاختلاف والتقارب بينهما .

وإذا كانت الصورة الشعرية لدى الشاعرِ تبني نُسغَها الخاصة بين ذاكرةٍ قصيةٍ حية بتفاصيلها التي يشكل استدعاءها فيما بعد صورا شعرية، وبين صورٍ مخياليةٍ تستقي أبعادها من مساحات في اللاشيء المكاني والزماني، حيث يغيب فيها الشاعر وتشتعلُ حواسه بالتمرغ في فيوضهِ، إلا إن الصورة المتعاضدة البناء في اقتسامِ مهمة الخلق والتصوير بين الواقعي والخيالي، وفق حالة الشعرية المستطيلة في النص والمراهنة على صورةٍ أكثر إيغالا وتلوينا، هي الحالة الأكثر حضورا في نصوص الشاعر .
فالشاعر يبني صورَهُ بشكل تنسدل فيه علاماتُ الصور وملامحها على حواف الشعرية، بلا تأريخ أو تصوير واقعي فجٍ، وبلا غياب أو تغييبٍ للمعنى وصوره الطبيعية.
يقول..
أرفعُ الآنَ رأسي قليلاً من الحبّ
ماذا أرى .... ؟

صوتُها يتسلّلُ مُرتعشاً
في عُروقِ المطاراتِ
يلهثُ مثلَ خُطايَ ..

فالصورة بطبيعيتِها المتكررةِ والحادثةِ في الحياةِ، تدخلُ مساحات التأويلِ بأقصى درجةٍ من بهاءِ الواقعِ، وبأشدِّ نصاعةٍ للخيال، فالشاعرُ يصف حالتهُ منتبها قليلا من سطوة العشقِ، وكأنه في بؤرةِ الصورةِ ليجد صوتَها هاربا بحدة كخطاهُ، كحدثين متباعدين.
وهنا تصبح الصورة حادةَ في ثباتها وفي تصويرها المستدير فخطاه كصوتها المرتعشِ أيضا، فالثباتُ والحركةُ فعلا متجاوران في الحدثِ، والصورةُ لاتقدم ترميزا للحدثِ بل تفنيدا لحالاتهِ واستحضارا لإشاراتهِ الممغنطةِ بما وراء ذلك الحدث من جزع وحزن .

إن التجاذب والتآزر الفني في بناء الصورة بين مشتركين؛ هما الواقع والخيال، يمثل أقصى درجات سطوع الرؤيا الشعرية لدى شاعر بثقل وتقادم تجربة إبراهيم محمد إبراهيم، وبعمق رؤاه ونصوصه، لذا كان لابد من سلطة ضوء على تجربة مستمرة العطاء كـ هو ..

ـــــــــــــــــــــ
هوامش وإحالات:

1- الطريقُ إلى رأسِ التّلْ - رحيلٌ في تَضاريس ِالغُربةِ والعِشقْ
2- ناقد وأكاديمي أردني يرى نفسه ضد سيادة ثقافة اللامعنى، الزعبي: الأعمال الجيدة تفرض نفسها على النقاد وتدفعهم للكتابة عنها جريدة الغد ، حوار عزيزة علي
3 - النص نفسه
4-عند باب المدينة - عند باب المدينة
5 -هذا من أنباء الطير - انكفاءةٌ على امرأةٍ ووطنْ
6 - خروج من الحب..دخول إلى الحب
النصوص من مجموعات الشاعر المنشورة في موقعه (أوتاد) http://www.awtad.net/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب