الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنقيب في غرفة

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2007 / 11 / 12
الادب والفن


أغلق خلفة الباب بالمزلاج ,وانتفض بعنف كهر بللة المطر , طارداً مشيمة شيخوختة , نعاس نهار يغلف جسدة , متدحرجاً في أول كل ليل مع كيس طعامة الى غرفة التنقيب , مشيعاً ذلك النهار في سريرة , موقظاً همتة على إنجاز أكبر قبل أن يستيقظ ويبتلعة طمع ورثتة , موهماً نفسة بالحصول على حفنة من ذلك التراب .

ففي كل الزمان الذي انصرم يهبط بيتة بفعل ارتفاع الزقاق . وهو يحاول لاهثاً ملاحقة كل ارتفاع جديد برفع دكة الباب الرئيس وأبواب الغرف الآخر , فأصبحت أرضية البيت طبقات , طبقة فوق أخرى , تحاكي الطبقات التي ارتفع بها الزقاق الذي ترفعة البلدية مع كل حالة اكساء جديد للجادة العمومية . فالمياة الجوفية تتمرد دوماً على إسفلت الشارع فتصرعة وتخرج الى السطح قيء جرح لا يندمل . تاركة آثارها واضحة , فطريات تنتشر على جلد الشارع , الذي أعطاة رئيس البلدية اسماً للتحايل على آخر الولاة العثمانيين , الذي عاد تواً من انتصار مؤقت في كوت الإمارة . فحين شاهدة ارتفع الم القولون الى وجنتية , فبدا الامتعاض واضحاً على وجهة , فبادر رئيس البلدية لتلافي حراجة الموقف الى تهنئتة على الانتصار الذي أوقف زحف قوات العدو , والذي اتضح فيما بعد بأنة آخر نصر يحققة لامبراطوريتة فيما تبقى من زمن الحرب كلها . شاهد الحجر القاشاني الذي حفر علية ( خليل باشا جادة سي ), ابتسم وأمر باستكمال شق الطريق .


في جانب من هذا الطريق ينقب متعباً في غرفة من بيتة عن أول طبقة وقفت عليها اساساتة . فلقد عاش ما يكفي الى الحد الذي لم يعد فية يميز بين أحفادة وبين جباة الماء والكهرباء ¸وكثرتهم أفقدتة قدرة التمييز بينهم , فالمرات التي رفع فيها أرضية البيت ليقترب من ارتفاع الزقاق كونت طبقا تختلف كل واحدة منها عن الأخريات , باختلاف مواد البناء المتاحة والشائعة في حينة , وباختلاف البناءين الذين لا يجهدون أنفسهم كثيراً في استنهاض فنون البناء لديهم في أرضية بيت عتيق لا يتطلب العمل فية سوى مدة قصيرة يتقاضون عنها أجراً يفوق جهدهم , بعدها يتسللون عبر الزقاق , هرباً من مطالبات رجل لا يعاودون العمل لدية مرة أخرى , فخلقت كل طبقة لنفسها تأريخاً يضغط , بعنف ودوام , على ما سبقها , ويضغط بما تلاة من ثقل الطبقات ألاحقة التي أُضيفت الى أرضية البيت ابتغاء رفعها .. فكلما تضرر الشارع لقربة من النهر وانعدام تصريف مياة الأمطار ,و مياة استعمال البيوت , جثم إسفلت جديد ثقيل فوق ما سبقة من إسفلت متآكل ¸يراد بة إسكات المياة الجوفية من البوح .


وهو يرفع أرضيتة مع كل مرة يحاولون فيها اكساء ( خليل باشا جادة سي ) يرفع معها الأبواب التي كادت نهاياتها العلوية تلتصق بالسقف , على الرغم من الشقوق التي بدت واضحة على كلس الجدران , وتأكل آجرات عديدة من الجدران الخارجية , فيحاول في كل مرة ترقيعة من الداخل وترميمة من الخارج ليبقية واقفا على المتبقي سالماً من آجرات الأساس الذي تعدتة الرطوبة لتعلو على الشبابيك . فأصبحت للصراصر مستعمرات , تنتشر ليلاً بشكل مريب , وتستريح على أغطيتة , وتأكل من طعامة , وتشرب من ماء شربة , وتقضم ما يحلو لها بشكل تأمري . فيصمت عن عجز وخوف لستأسد نهاراً بنعال من المطاط يصطاد بة فرائسة المدركات ضعفة , فيمكث في غيظة متآمراً على نفسة ¸علة يبقي شيئا من الوقت يتأسف فية على بيتة الذي يتداعى بين يدية , والذي شهد فية الكثير , بدءاً من رحيل أخر غزاة عصر التدهور وأول غزاة عصر التحضر , الذين مروا فوق ثرى هذا الطريق لا يفصل بينهما سوى سبع ساعات من انسحاب ( خليل باشا )منهزماً تاركاً ( جادة سي ) من دون أن يدخل المدينة معللاً ذلك ببرقية رفعها الى وزير حربيتة جاء في نهايتها :

((...رغبة مني في تحطيم الإجراء المتخذ وتقوية معنويات الجيش ومعداتة سأواجة الضرورة الملزمة وهي إخلاء بغداد )).


وبين وقع حوافر جواد الجنرال وحوافر جياد جنودة القادمين من درة التاج , والتي أتخمها الغنى من أموال المتاجرة بعبيد أفريقيا المستجلبين عنوة في القرن الثامن عشر , وهم يزحفون بهدوء المطمئن الى أحشاء المدينة , التي قبل ألف من السنين من ذلك اليوم , كان قد أرسل إليها رسولاً الوصية على الإمبراطور غير البالغ
( قسطنطين بورفير جينيوس ) بين الدولتين , ولإظهار أبهة الخلافة وعزتها أمام أنظار الرسولين زينت يوم استقبالهما جميع أبهاء دار الخلافة أجمل زينة , وحشد الآف الجند والخدم والغلمان في أقصى درجات الاهبة واتخذوا أماكنهم داخل القصر وخارجة في صفوف متراصة بأزيائهم الخلابة .

افتتح حنجرتة بصوت , محاولا ضبط أوتارها , خشيت صمت سكنها منذ انشغال الذهن بالبحث والتنقيب :
- أخريات قادمات لا تستطيع تفاديها . مثل العث , وان دمرت مساراتة على سطح الجدار لا تستطيع التكهن من أي ثقب يخرج مرة أخرى , كذلك المصائب .

سعل , وضع يدة فوق فمة , متحاشياً خروج البلغم :
-ما ذهب أكثر بكثير مما بقي , واكذب أن يأتي الموت وهو ينازعني أنفاسي .

ويظن صدقة كامناً تحت جلدة يلسعة في كل حين من دون حاجة الى ألم , فأدمنة الحزن , واقتطع نهايات أعصابة الحسية , ودفنها تحت أول طبقة عبدوا فيها الجادة العمومية كما يسميها مدير الأوقاف , الذي ذهب الى إن سلطة رئيس البلدية لا تخولة صلاحية التصرف بممتلكات الأوقاف في ( سوق الحيدر خانة ) حيث يمر الشارع , معلناً رفضة لانتهازيتة , متهماً اياة : ب (( فتح باب لدارة على السوق )), فأصبحت , بعد توسيعها , تطل علية . مما اضطرة الى الاستقالة متذمراً وشاجباً تصرف رئيس البلدية بالأموال العامة من دون مسؤولية أو حرص .

دفن أعصابة وهو يسمع تصفيق المهنئين بميلاد مدينة عصرية تمتلىء بالأضواء وتضيع شوارعها بين ألوان وأنواع الأحذية الوطنية والمستوردة للمارة . بين هذا الهم , وهو البحث عن أساسات بيتة , الذي لا يبعد كثيراً عن شارع ( هندنبرك ) كما رغب الغير تسميتة , والذي سيصل إلية الاستملاك قريباً , فالشائعة تسربت بتعمد من بين السن الراغبين في وقوعها , لتنتشر في الأزقة والبيوت , فخلقت لنفسها مؤشرات تضغط بعنف على المتشككين بها و علها تقنعهم بقرب وقوعها , فضلا عن مذيعيها والراغبين فيها , والذين يعدونها حقيقة لا طائل من إضاعة الوقت بتكذيبها . حتى ان ورثتة يتلمظون لذكر ( الكص ) الذي سيقع على بيتة , فأشعروة من دون أن يبتغوا ذلك بزياراتهم لة , وعرض علية كثير منهم العيش معهم , حتى يؤذن بإزهاق روحة , وظهور التعويض الذي سيقلب تعاسة انتمائهم إلية الى فرح يحسب بعدد المال المقبوض , فهو يجثم فوق أمانيهم عجوز لا يقوى على رد صفعة , وقرار الاستملاك , كما صرح أحدهم مازحاً :
- بطيء كدبيب الموت في أوصال جدنا . على الرغم من ذلك لم يطهر امتعاضاً أو ترحيباً بأي منهم :
- لم يبق في الذهن متسع للتفكير , فقد شغلت مساحتة منذ زمن بالتنقيب .

ابتدأ من غرفة هجرها لعدم حاجتة لها , كما هو حالة في العديد المهمل منها . يعمل ليلاً لا يفاجئة احد يمنعة أو يحاول منعة , بحجة أن التنقيب قد يؤثر في قيمة التعويض الذي تقررة البلدية لاحقاً . على الرغم من إن أحدا من موظفيها لم يأت حتى الآن لمسح المنطقة وتحديد البيوت التي سيتم استملاكها . فالليل يعطية المبرر لغلق الباب بالمزلاج , على الرغم من إن النهار لا يمنعة من ذلك .


اكتشف بعد أن شرع بالتنقيب فعلاً إن قرارة في اختيار المكان صائباً . حيث إن التراب الذي سيرفعة يكون سطح الدار كافياً لاحتوائة وتعريضة لأشعة الشمس لتجفيفة ومنع تسرب عفونتة الى البيوت المجاورة , كاشفاً أمام الضوء تأريخ الطبقات التي تفترش السطح وتتيبس ببطء متخلصة من ضغط التي سبقتها , ومخففة من ضغطها على ما تحتها من طبقات سبقتها . أدرك أنة يبتدىء بأحدثها عمراً , ابتسم :
- تبتدىء من آخر ما أنجزتة دوماً .
فعمل الليل يقية فضول جيران تغيروا كثيراً من ما كانوا علية قبل عقود من السنين , ويقية سلطة البلدية في إيقاع الغرامات .


يرفع من أرضية الغرفة بلاطات أقتلعت أصلاً بتأثير الرطوبة . لم تكن ثابتة في محلها لقوة ربط فيها . بل لان أحداً لم يطأها , فيرفع ما يقدر علية , بلاطة بلاطة , وبإضاءة كافية تساعدة على إنجاز عملة , ليرفع قبل شروق الشمس ما ازاحة ليلاً من أرضية الغرفة , لينام النهار بطولة من دون إحساس بمستعمرات الحشرات التي تنام معة . وحين يصحو عند الغسق يعرج لأقرب حانوت يبتاع منة حاجتة من طعام يوم قادم , يعلقة في غرفة التنقيب ليعاود العمل من جديد ببلاطات تُرفع من دون عناء كبير , لتكشف تربة ندية فاضحة بعض مستعمرات الصراصر التي تتحرك باتجاهات مختلفة , بعض منها يلتصق بالبلاطات متخذاً من يدة وكتفة سلماً للصعود الى رقبتة , ليزيحها بانفعال مجهد , تاركاً البلاطة تسقط من يدة , ليتخلص منها ويعود إليها حال احساسة بنظافة جسدة , تترك الضوء الى آية زاوية في الغرفة , يتسلق بعض منها الجدران , تاركاً ندباً سودا على الجدار العاري الذي أفقدتة الظلمة لونة . تتعلق وتمكث ساكنة في محلها , وكأنها مسامير ثبتت فية منذ زمن بعيد , تنتظر هتك عرض غرفة مكثت عقوداً من السنين في سكون مميت تحفظ عذريتها بعفونة تربة , تتراكم طبقة فوق طبقة , تحكي نمو الشارع الذي سُمي بعد خمسة عشر عاماً من شقة من دون افتتاح أو مهرجان يليق بة ب(( الرشيد ))ً بناءً على اقتراح سعادة أمين العاصمة .


مع نمو كتلة الطين المتيبسة على سطح الدار , يزداد عمق حفرة التنقيب في أسفل الغرفة المهجورة , والتي أكلت زمناً من العمل المتواصل , فاعترتة الصفرة نتيجة الجهاد والمكوث في مكان مغلق , يزداد عمقاً بعد كل ليلة عمل شاقة على جسدة الضامر . ينظر جدرانها تبتعد عنة , حتى أن دكة الباب أصبحت من الارتفاع بحيث لا يقوى على حمل جسدة لارتقائها . يعلل نفسة :
- اقترب اليوم الذي أختم فية العمل .
أو :
- إن أساسات البيت أصبحت قريبة . قد لا تبعد سوى ضغطة واحدة من مجرفتي , إن لم يكن قد وصلت إليها بمجرد ازاحة الطين الذي تحت قدمي .



بدت الصراصر , ندباً سوداً , صغر حجمها , متلاصقة مع بعضها البعض . خطوط مرسومة بعفوية على الجدار . تحركت , خلقت لنفسها مسارب , كأنها مستعمرات نمل دب النشاط في أوصالها . تفرقت تاركة صفوفها التي انتظمت فيها . مسها الذعر كجيش منهزم أو مدينة أصاب ناسها ذعر زلزال . اتجهت الى كيس طعامة المعلق على مقربة منها . اثارة تحركها , فعلق بصرة بالجدران التي أدرك متأخراً حجم التشقق الذي ازداد اتساعاً فيها . أخذ الكلس يهمي على رأسة...من دون أن يترك لة فرصة ...على طين الحفرة , وهو يراقب بتوجس مستطيل الباب الذي سقطت منة آجرات عديدة . غطى رذاذ الطين المتطاير من ارتطامها كل جسدة . حاول اتقاءة بكلتا يدية , مانعا وصولها الى وجهة المغطى بهما وفي ذهنة مزلاج الباب الرئيس الذي أغلقة خلفة بعنف على ظلمة دامسة ..........








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا


.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف




.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??