الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حتى الأموات يعودون إلى الحياة

محمد بن سعيد الفطيسي

2007 / 11 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


لقد شكل عقد التسعينات من القرن العشرون , مفترق طرق رئيسي في التاريخ السياسي الحديث , ففي هذه الفترة الزمنية وبالتحديد في 26 / ديسمبر / من العام 1991 م , أعلن البرلمان السوفيتي حل نفسه والإعلان عن انتهاء الدولة , وبعده بأربعة أيام – أي – بتاريخ 31 / ديسمبر / 1991 م , يعلن انتهاء الاتحاد السوفيتي عمليا , وتودع قباب الكرملين المطرقة والمنجل بإنزال العلم الأحمر من سماءها , لتنتهي بذلك حقبة زمنية تجاوزت السبعة عقود من الزمن , كانت لها من السمات والخصائص الكثير, وأبرزها على وجه الإطلاق أن العالم في ذلك الوقت كان يعيش حقبة الثنائية القطبية , والتي كان يتجاذبها حينها الاتحاد السوفيتي من جهة , والإمبراطورية الاميركية من جهة أخرى , فلقد ( بدا وكان كلا من العاصمتين كانتا قطبا مغناطيسيا جاذبا لجل القوى الأخرى في مجمل النظام الدولي , حتى تلك التي كانت ترفع شعار عدم الانحياز , إلى احد فلكي واشنطن او موسكو , حيث لم يكن أمام أي ضحية محتملة لهجوم هذه القوة العظمى او تلك , سوى خيارين أساسيين :- إما أن تصبح حليفة للقوة العظمى المتنافسة , او أن تذعن لمطالب القوة العظمى المتنامرة المعتدية )0
ولكن وكما هو معروف فان تجاوز العقبات الجيواستراتيجية والتحولات الجيوبوليتيكية التاريخية , يحتاج إلى عدد من المزايا الخاصة لتجاوزها , كالانفتاح الحضاري , والسياسات الطرية اللينة الناعمة – الثقافية منها والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية العابرة للقارات على سبيل المثال لا الحصر , وليس بالسياسات المتقوقعة على نفسها , وغيرها من الصفات ومقومات أمم العصر الذري الحديث , والتي اعتمدت الولايات المتحدة الاميركية عليها كثيرا في تلك الفترة , في وقت لم يستطع العملاق الشيوعي الأحمر تقبلها , وتجاوز المركزية الأيديولوجية الشيوعية التي حارب من اجل نشرها في مختلف أرجاء الأرض , فتقوقع على نفسه في مواضع الانفتاح , وسعى للانفتاح في موضع يحتاج فيها للاستقلال والتفرد , وهو ما تسبب له في نهاية المطاف بما يمكن أن نطلق عليه بمرض الشيخوخة الأممية , بكل ما تحمله من أعراض جانبية وأمراض حضارية , وهو ما يصيب الأمم والشعوب عند بداية موتها الزمني ونهايتها التاريخية والحضارية 0
مع عدم تناسي الدور الاميركي الرئيسي في سقوط الاتحاد السوفيتي , وذلك من خلال الدور العسكري والاستخباراتي والاقتصادي الذي لعبته الإمبراطورية الاميركية على مدى سنوات , بهدف إضعاف المد الشيوعي والقضاء على قوته الجيواستراتيجية العالمية , وهو ما اعترف به العديد من قادتها ومخططيها الاستراتيجيين والعسكريين والاستخباراتيين , كما حدث على سبيل المثال لا الحصر من خلال الزج بالاتحاد السوفيتي في ما أطلق عليه الأميركيان بفيتنام الثانية او أفغانستان , - راجع مقالنا , أفغانستان الفتيل الذي أشعل العالم - والتي كانت القبر الذي حفرته الولايات المتحدة الاميركية للعملاق الشيوعي الأحمر , ونجحت بكل جدارة في إقحامه والزج به فيه , والذي كان بمثابة المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية الحمراء 0
وهو ما عبر عنه أستاذ السياسة الاميركية الخارجية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز , ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر زبيغنيو بريجنسكي بقوله :- ( جاءت هزيمة الاتحاد السوفيتي نتيجة اثنين وأربعين عاما من جهد الحزبين - الجمهوري والديمقراطي - الذي امتد عبر رئاسات هاري ترومان وداويت أيزنهاور وجون كندي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون وجيرالد فورد و جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج اتش دبليو بوش , وقدم كل رئيس أميركي تقريبا بطريقة مختلفة مساهمة كبيرة في النتيجة 000 فقد عزز دوايت أيزنهاور حلف الناتو , ولم يتحد جون كيندي محاولات الكريملين تحقيق اختراق استراتيجي في أثناء أزمتي برلين وكوبا في أوائل الستينات فحسب , وإنما أطلق أيضا السباق إلى القمر , ما استنزف الموارد السوفيتية وحرم الاتحاد السوفيتي من انتصار سياسي ذي مغزى أيديولوجي قوي سعى إليه بشده ) , وجيمي كارتر الذي نجح مخططوه كذلك فيما سبق واشرنا إليه , من خلال السياسة الاستفزازية والاستدراجية التي غررت بالاتحاد السوفيتي فأقحمته في المستنقع الأفغاني 0
وهكذا انتهي الدور التاريخي لواحد من أهم وابرز أقطاب القوة في القرن العشرون , " كوجود قائم للدولة فقط , مع استمرار الفكر الشيوعي وامتداده حتى اليوم " , حيث أن الأفكار من الصعب أن تموت وتنتهي بسهولة , ليبدأ بعد ذلك تحول جديد في دورة التاريخ السياسي الحديث , وذلك ببداية عصر القطب الواحد الذي تزعمته الإمبراطورية الاميركية من غير منافس وبكل جدارة في نواح عديدة , كالقوة العسكرية والتكنولوجية والامتداد الجيواستراتيجي , في وقت بدأت تتراجع وبحسب الكثير من المعطيات , وأراء العديد من الخبراء والمراقبين في قوتها الطرية الناعمة , - راجع مقالنا , المتسللون من خلف الخطوط الحمراء , ولتمتد تلك الزعامة الكونية التي تفردت بها حتى نهاية القرن العشرون , حيث – وبتصورنا الشخصي – أن القرن الحادي والعشرون قد حمل معه العديد من المفاجئات والمتغيرات التاريخية التي لم تكن بالحسبان بالنسبة للإمبراطورية الاميريكية , وعلى رأسها أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 م , إذا ما تجاهلنا نظرية المؤامرة في ذلك , وعودة المارد الروسي للاشتعال من جديد , من تحت أكوام رماد الجسد السوفيتي الميت , وهي متغيرات ربما لم تدرك معالمها الإمبراطورية الاميركية او ربما تجاهلتها ككثير من المتغيرات العالمية التي بدأت بالظهور مع مطلع القرن الجديد 0
في وقت تصورت فيه الإمبراطورية الاميركية بان الامتداد الشيوعي للاتحاد السوفيتي او وريثه الشرعي - أي - روسيا , ستكون مجرد صورة معلقة على جدران بيت قديم , ولكن الحقيقة كانت مختلفة جملة وتفصيلا , حيث استطاعت روسيا بوتين أن تفرض نفسها على الساحة الدولية من جديد , وان تعيد صمام الأمان المفقود إلى رئة الجسد المتهالك , وترجع بذلك الحياة إلى ميت تصور الكثيرون استحالة عودته إلى الساحة الدولية كمنافس على السيادة والهيمنة الجيوبوليتيكية على اقل تقدير, وقد برز ذلك بكل معنى الكلمة في الخطاب التاريخي لبوتين والذي ألقاه في العام 2005 م , ذلك الخطاب الذي حطم كثيرا من القواعد المتعارف عليها حتى ذلك الوقت , وهي قواعد الانزواء تحت عباءة القوة الاميركية العظمى , حيث حفظ العالم جملة بوتين الشهيرة وهي أن العالم يجب أن يستعد للتعامل مع روسيا قوية , وقال كذلك :- بان انهيار الاتحاد السوفييتي قد شكل اكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـعشرين وتذكر بحنين العالم الثنائي القطب القديم , حيث كانت هناك قوتان عظميان تكبح كل منهما طموحات الأخرى , وهو بذلك لا يعني فقط استرجاع جبروت روسيا المفقود , وإنما أيضا جعل بلاده الثقل الموازن الأساسي في مقابل القوة الأمريكية , بحسب تعبير سيرغي كاراغانوف مستشار السياسة الخارجية في الكرملين 0
ونحن هنا عندما نتحدث عن الاستثناء الروسي بشكل متفرد كمنافس عالمي حقيقي " محتمل " , ونختاره كشريك موازن رئيسي للولايات المتحدة الاميركية في الحقبة القادمة , فذلك لا يقلل من قيمة عدد آخر من المتربصين الجدد , كالتنين الصيني والقوة اليابانية في أسيا , او الاتحاد الأوربي على سبيل المثال لا الحصر , ولكن ذلك ناتج عن وجود عدد من المقومات التي تتميز بها الدولة الروسية الحديثة , والتي يتوقع لها العودة من جديد إلى الساحة الدولية , كمنافس استراتيجي على رقعة الشطرنج الدولية , كالدافع القومي التاريخي الذي يطمح لعودة الأمة العظمى , والذي أحياه بوتين في ذلك الخطاب , والإرث العسكري المتنامي الذي يجثم فوق الآلاف من الأسلحة النووية الإستراتيجية, وعودة الروح إلى الاقتصاد الروسي المتهالك نتيجة ارتفاع أسعار النفط , والسياسة الجديدة البراغماتية من جهة , والقومية المتعصبة من جهة أخرى , تلك التي وضع معالمها الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين , والذي نستطيع أن نشبهه بلينين الأول مؤسس الاتحاد السوفيتي, ليكون بذلك لينين الثاني ومؤسس الدولة الروسية الثانية او مهندسها أن صح التعبير 0
وقد كان للإمبراطورية الاميركية دور كبير في إعادة الحياة إلى الجسد الروسي الميت دون أن تشعر او تقصد ذلك , فعلى سبيل المثال لا الحصر كان التهميش الدائم وسياسة الاستعلاء التي انتهجتها , واحدة من أسباب عديدة حركت موروث القومية التاريخي في الجسد الروسي , ودفعت واحد من ابرز قادتها القوميين منذ العهد الشيوعي إلى التمرد ورفض الهيمنة الاميركية , فبادر بكل ما أوتي من قوة للتحرك , بهدف إحياء الماضي بجميع جوانبه السياسية والعسكرية والإيديولوجية القومية , بل وهدد بالوقوف أمام زحف القوة الاميركية وهيمنتها أن اضطره الأمر إلى ذلك , وهنا كمن الفرق في اختيارنا بين الدولة الروسية وغيرها من المنافسين الدوليين الآخرين كالصين واليابان والاتحاد الأوربي , - أي – بكون روسيا شقت جدار الصمت وتحركت , في وقت لا زال الآخرون فيه صامتين متخوفين او لا يملكون مقومات المنافسة الشاملة 0
كما كان للدرع الصاروخي الذي تحاول الولايات المتحدة الاميركية نشره في أوربا الشرقية بزعم التصدي لأي مواجهات عدوانية إرهابية عليها او على حلفاءها الاستراتيجيين, وعلى وجه التحديد من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية , دور لا يقل أهمية عن سابقه في إثارة المخاوف الروسية , وإعادة الحرب الباردة الثانية من جديد بين القطبيين القديمين , فها هي روسيا وفي خطوة حاسمة وخطيرة لمواجهة ذلك التعنت الاميركي , تعلن تعليق عضويتها في معاهدة الحد من القوات التقليدية في أوربا , بل وتلمح إلى إمكانية تعزيز حشودها العسكرية على حدودها الغربية لها , وفي هذا السياق نقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن رئيس أركان القوات المسلحة يوري باليوفسكي قوله أمام مجلس النواب الروسي , إنه لا يمكن توجيه اللوم لبلاده على تعطيل المعاهدة ، مضيفا أن هذا ( لن يشكل ضررا لا يعوض بالنسبة لبلادنا , لكن فيما يتعلق بالدول الأوروبية فسيشكل هذا خسارة ملموسة وحساسة بالنسبة لهم ) 0
وانطلاقا من هذا التصور والتحليل المحتمل لتغير موازين القوة في العالم , فان المتوقع أن تزداد العلاقة توترا بين الولايات المتحدة الاميريكة والدولة الروسية خلال السنوات القادمة , ولكن ليس إلا درجة المواجهة والتصعيد العسكري , ولكن ما هو مؤكد على هذا الصعيد , سيكون استمرار ردود الأفعال والخطوات الاستثنائية الأحادية الجانب من كلا الطرفين بهدف عرض العضلات وفرض الشخصية القومية والسيادية , مع التأكيد على الدور الروسي القادم بقوة على رقعة الشطرنج الدولية , بشرط بقاء تلك المقومات سالفة الذكر كدافع لها على المنافسة , وعلى رأسها ارتفاع أسعار النفط والمحروقات , مع الإشارة إلى ضرورة بقاء النهج القومي الذي يسير على أثره الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين في سياسات وتوجهات الزعامات التالية لروسيا وعلى مختلف الأصعدة والجوانب الحياتية , هذا إذا لم يتم تغيير بعض مواد الدستور الروسي خلال الشهور المقبلة , ليمنح بوتين من خلالها صلاحيات الزعيم المطلق للأمة الروسية الحديثة 0
كاتب وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح