الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياحات خيالية (3) / أميرة وسعاد

عدنان الظاهر

2007 / 11 / 14
الادب والفن



كنتُ وحيداً في بيتنا ذات مساء صيفي أحضّر نفسي لإمتحانات البكالوريا النهائية . سمعت قرع جرس باب بيتنا يرن بدقات رقيقة متقطعة . ذهلت . صعدت دمائي في رأسي . إرتعشت ساقاي . ماذا أرى أمامي ؟ سعاد ... ممرضة مستوصف صحة الطلاب ، صاحبتي التي ورطني صديقي جميل بها ومعها ، ورطة لها أول على ما بدا لي وليس لها من آخر . ما كانت وحدها . مفاجأة أخرى كبيرة . جاءت وبصحبتها صديقتها ، ممرضة مسيحية يعرفها أهل مدينتي من جيلي ذاك . جاءت ( أميرة ) مع باقي أفراد أسرتها إلى مدينتنا من مدينة الموصل فكانت عائلتها الكريمة موضع إهتمام وعناية وإحترام أهل المدينة قاطبة ً . ما كنتُ أعرف ( أميرة ) ، أعني لم نلتقِ يوماً لا في بيت أهلها ولا في بيت أهلي ولا في المستشفى التي تعمل فيه . كنت أراها في شوارع المدينة تروح صباحاً إلى مستشفاها وتؤوب منه بعد الدوام . لماذا جاءت بيتنا ذاك المساء مع صاحبتي سعاد ؟ لم تكن تعرف أحداً من أهلي ، لا شقيقتي ولا والدتي ولا أحداً من أشقائي . إرتبكتُ ، فقدت السيطرة على نفسي ، على لساني ، على تفكيري . ما تفسير هذه الزيارة الليلية المفاجئة ؟ زيارة بدون موعد أو إتفاق بشأنها أو بخصوص توقيتها ؟ بعد جهد جهيد ــ وأنا صادق فيما أقول ــ إستطعت أن أعتذر من الزائرتين أني لا أجرؤ على إدخالهن إلى بيتنا ، ببساطة ، لأني كنتُ وحيداً . باقي الأهل جميعاً كانوا خارج الدار لهذا السبب أو ذاك . أضفت في لحظة إلهام أتاني ببعض الشجاعة وبحرارة وعفوية وصدق : إنه سوء حظي ... سوء حظي أن لا يكون معي أحدٌ في الدار من أهلي . إعتذرتا وإنصرفتا . قفلت الباب وعدتُ إلى حجرة دراستي الأمامية. لم أستطع مواصلة الدراسة . ظل فكري مشغولاً بهذه الزيارة الفجائية وبمن قام بها . يا لجرأة المرأة ! ليت لي جزءاً يسيراً من هذه الجرأة بل الجراءة. أجهدت ُ نفسي لكي أستعيد السيطرة على زمام أموري التي إنفلتت على حين غرّة مني . أجبرت نفسي على تناول كتاب الكيمياء في محاولة لمتابعة الدراسة وضبط المعلومات والمعادلات وحسابات المسائل الرياضية . كيف أستطيع ضبط تعادل رموز العناصر وصيغ المركبات الكيميائية المعقدة وأنا مضطربٌ فاقد لتوازني الجسدي ( ظللتُ لفترة زمنية طويلة أرتجف وأصابعي ترتعش ) والنفسي عاجزٌ عن ضبط أعصابي وتداعيات أفكاري السود والبيض والخضر والحُمر ؟ كيف أتتني هذه البلية وتم توقيتها بعد الساعة الثامنة والنصف ليلاً ؟ ما سر هذا التوقيت ؟ هل كنتُ أنا المقصود بهذه الزورة الخاطفة أم جاء الزوّار لتعميق معرفتهم وصداقتهم مع أهلي ؟ بل أنا المقصود . هكذا رسوتُ على هذا الإستنتاج الصعب . كنت منحازاً لنفسي ، أخادعها ، أمنّيها بعسل وخمور جنات الخُلد . أنا المقصود وأنا المُزار ، لا أختي ولا أمي ولا أخي الأكبر مني ولا بالطبع والدي . أنا أنا ... أنا أنطونيو وأنطونيو أنا !! عدتُ بعد لأي لكتاب الكيمياء بنصف تركيز لا أكثر . دقيقة مع صفحاته وأخرى مع خطفة الزائرتين . أدخلت نفسي في صراع مرير أنتصر تارةً فيه فأعيد نفسي إلى كتابي ودراستي وأخسر الجولات تارات ٍ أُخرَ فأتيه وأسيح مع سعاد وأميرة . تركيز وشرود ذهني . جاء الأهل قبل العاشرة بقليل . أطلوا عليّ كعادتهم يستجلون أمري مع كتبي وإستعداداتي للإمتحانات النهائية القادمة الصعبة . كانت المروحة الكهربائية المنضدية تدور ناقلةً رأسها يميناً وشمالاً تحرك هواء الغرفة فيبرد قليلاً ويدفع عني غائلة حر الصيف القائض . قالوا لي تصبح على خير ومضوا يعدون أنفسهم للنوم على سطح الدار . كعادتها ، أضافت الوالدة بحزم وبلهجة آمرة : لا تسهر طويلاً ، حافظ على سلامة عينيك . نمْ مبكراً لتستيقظ مبكراً وتواصل الدراسة نهاراً . حملت الوالدة سجادة السطح وفعل الوالد ما فعلت مستصحباً معه إبريقَ ماء ِ وضوءِ صلاةِ الفجرِ . أخذ أخي وأختي معهما نصف رقية حمراء مغرية ليضعاها على الحاجز الحجري الذي يستر السطح عن العيون المتطفلة [ نسميه تيغة ] ... كما هو شأن جميع البيوت العراقية دونما إستثناء . بالطبع لا أنفذ طلب الوالدة مني أن أنام مبكراً . كانت عادة جيلي أوقات الإستعداد لأداء إمتحانات البكلوريا السهرَ طويلاً سواء في البيوت أو المقاهي . السهر حتى مطلع الفجر ... ثم النوم حتى إلى ما بعد الظهر . الحق مع والدتي ولكن ، من يُصغي ومن يسمع صوت أمهات جيلنا ؟ بعد قليل سمعت صوت شخير الوالدة يشق جدران البيت . بصراحة ؟ لم أستطع مواصلة القراءة . لم أخبر الأهل بزيارة سعاد وصديقتها أميرة . كنتُ خائفاً من لوم شقيقتي وتقريع أخي الذي كان شديد الحرص على متابعة شأن دراستي وجهادي مع الكتب والمقررات الدراسية الكثيرة والمنوعة . سيسألونني ــ ومعهم كل الحق ــ ما سبب هذه الزيارة وكيف تمت ولماذا نُفّذت في غيابهم وفي ساعة متأخرة من الليل . معهم حق ولكن ما ذنبي . كنت بريئاً منها كل البراءة . أنا مّن فوجئ بها لا هم . أنا مَن صُعقت وكدتُ أن أنهارَ على مدخل دارنا لا هم . أنا الذي خسرت حصيلة جهاد ليلة كاملة مع الكتب والتحضير . أنا الضحية ولا من أحدٍ غيري . من يصدق دفاعي وحقيقة ما حصل ومن أني بريء لم أخطط ولم أدبر في ليل ٍ ولم أتفق على موعد مع هاتين الفتاتين ، مَن ؟ أبي هو الوحيد الذي لا يتدخل في شؤوني أبداً ، لا يسائل ولا يحقق ولا يسبب لي أية إحراجات ، لكنه أحد أربعة آخرين . قررت أن أخبر أهلي بما حصل في غيابهم صباح اليوم التالي وليكنْ ما يكن . ما كنتُ أعرف فنون إخفاء الأسرار والتعمية على المعلومات والأخبار . كنت صفحةً بيضاء لا شِية َ فيها . أخي هو الوحيد الذي سيواصل قلقه عليَّ وعلى مصيري ومستقبلي وبالتالي سيستمر يلاحقني بالأسئلة لماذا وكيف وعلى أي أساس و ... و ... صحوتُ ــ وقد نمتُ وكتابي في حضني مفتوحاً ــ على صوت والدي يتوضأ ويقرأ آياتٍ من القرآن الكريم بصوت يعلو حيناً ويخفت أحيانا . كنت أحب سماع صلاة الوالد فجراً . أطرب لما يقرأ . أشاركه خشوعه وإنصرافه الصادق لمناجاة السماء . كنتُ أشعر بالإعتزاز بتقوى الوالد فأزداد قرباً منه وتتعمق علاقاتي به فغدونا مع مر الزمن أصدقاءً . أزوره نهاراً أحياناً في مقهاه . يرحب بي وينادي فوراً وبصوتٍ عالٍ عامل المقهى ويطلب منه تقديم ما أشاء من المشروبات . كنتُ دوماُ أطلب زجاجة كوكا كولا وكان مشروب الكولا الأمريكي حديثَ عهد يومذاك . واصلت نومي وقد أنهكتني زيارة ليلة أمس وأضاعت مني جهد ليلة كاملة لم أفدْ منها مشتتاً وموزعا ً بين أفكار متباينة شتى ومشاعر متضاربة شديدة الإلتباس . هل ستنتصر إرادتي عليها فأنهض منتصراً معافى لإستأنف الدراسة بالجدية المطلوبة ؟ هذا هو السؤال الصعب . صرتُ أخاف البقاء في البيت وحيداً . هاجس قوي كان يلاحقني بلا هوادة . ربما ، ربما ستكرر سعاد زيارتها لنا في بعض الليالي . وحدها أو برفقة صديقتها أميرة . فضيحة ، نعم فضيحة ! لو جاءتا ثانية دون موعد أو إتفاق والأهل في البيت ، كيف سأتصرف ؟ هل سيلومني الأهل ولا أستحق اللوم أساساً ؟ هل عندئذٍ سأخسر ليلة دراسية أخرى وأتحمل العذاب والقلق وضغط الوساوس وضرب الأخماس بالأسداس ؟ هل سأنشق على نفسي فأُعاني ما أُعاني من صراع بين الإرادة الخيّرة وإغراءات الشيطان ؟ ليس لي أي إيمان بالشياطين . الشيطان ملتف ٌ في دواخلنا . نحن الشيطان ونحن ملاك الخيرمجتمعان معاً . ستنتصر لا ريبَ إرادتي . سأنسى سعاداً ومن تأتي مع سعاد . ليفتحَ أهلي لهما باب البيت . غدوت شاباُ محنكاً في أمور الستات . لا أرضخ لغوايات الشياطين . لا أؤمن بها . إيماني بإرادتي فقط . الإنسانُ إرادة ، وللإرادة قوة إسمها قوة الإرادة . ما كنتُ أعرف يومذاك تعبير الفيلسوف الألماني نيتشة (( إرادة القوة )) .
فكرت جدياً أن أزور مستوصف صحة الطلاب لأعاتب صاحبتي الممرضة سعاد على زيارتها المفاجئة التي سببت لي الكثير من الأوجاع والمصائب . وأن أرجوها أن لا تكررها فالإمتحانات النهائية على الأبواب. وأن أعدها أني سأرتب لها بعد الإمتحانات موعداً لزيارة الأهل في وقت يناسب الطرفين . وسأحاول جهد الإمكان أن أظل في البيت طيلة فترة مكوثها ضيفة علينا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها


.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف




.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب