الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الريل وحمد

جواد الحسون

2007 / 11 / 15
الادب والفن


تسلل البرد في مسامات جسده النحيل دونما عناء وهو قابع على ضفاف المحطة يستعجل سير الزمن ويبحث جاهداً عما يمكن ان يختزل به المسافات ليصل لحظة اللقاء .
راح الزمن يطوي على عالمه المتواضع حباله الملونة بألوان الطيف واخرى لم يتسن للعيون ورؤيتها . شيء ما بدأ يدور في اروقة نفسه ويحثه لان يرعى جذور الامل بداخله ويقتلع من اعماقه شبح اليِأس .
كانت ليلة من ليالي الشتاء الاكثر قسوة والاشد ظلمة ، احاطت بعالمه الصغير لتوقظ في نفسه الشوق المكنون . صار يشم رائحة اللقاء الذي لم يتحقق ولو لمرة واحدة مذ تعلم ابجدية المواعيد .
قضبان السكة كانت ترتعش مثل جسده ... انها علامة الاقتراب او انها المزيد من الشوق ... او الخوف ... او لربما هو الحياء . كل شيء يرتدي الهدوء الا قلبه وقضبان السكة .. شيء ما يثير الضوضاء ... رفع نظره بفرح لم يدم طويلا ... انها الفراشات التي كانت تبحث عن الدفئ حول مصابيح المحطة فتهوي محترقة بجذوة اللقاء ... ربما هو ثمن الدفئ كانت تدفعه الفراشات تباعا وبلا تردد .
ليست المرة الاولى التي يدفنه بها البرد وهو هارب من دفئ سريره .. كما انها ليست المرة الاولى التي يغادر بها بيته ليبحث عن الامان.. بيته الذي قد ينهار في اي لحظة بفعل دوي الرعد او بفعل صدى صفارات الحراس الليليين التي كثرا ما كانت مصدر ازعاج وهي تنطلق مدوية لتحاور السراق بلغة صاروا يألفونها حتى باتت تمهد لهم طريق الهرب والنجاة .
واصلت الارض دورانها وبدأ رأس الليل يشيب لينذر الظلام بموت بطيء. كان يبتسم بحزن ... وفي ذات الوقت كان يصرخ بصوت خفي كثيرا ما تجاهلته الاسماع التي باتت تجهل كل شيء ... الاسماع التي لم تعد تسمع حتى صرخات الريل ... الريل النازل باتجاه الجنوب .. او الصاعد باتجاه الشمال ... الصراخ ذاته الذي ينطلق من داخله ... كانت تطلقه القضبان ... صراخ مشحون بالالم .. بالخوف .. بالجهول .. وبالانتظار والترقب .. صراخ كان يعلن عن انطواء الزمن دونما وداع .. صراخ يمتزج ببعض نبرات الامل وشيء من الحب المكتوم خوفا ..كان يتساءل الى من ولماذا يحمل كل ذالك الهيام؟ كل الذي كان يعرفه هو انه حمد..حمد الشوق والوحدة والتغرب. دار بنظره صوب العربات التي عجزت عن الحركة وتساءل ... من لا يعرف حمد ؟ انين العشاق .. واهزوجة اسراب القطا ... وتهادي سنابل الجنوب .. هذا انا حمد ... كركرة البرنو .. جراح وخشونة اكف الفلاحين الشرفاء .. هذا انا حمد .. حفيف مناجل الحصاد ودموع الاطفال الممزوجة بملح الارض ... الريل ودلال القهوة والفنجان كلها تعني ان هناك حمد ... حمد ... حمد ...
صار يبتعد عن اضواء المحطة التي بدأت تضمر ويتضاءل ضوءها بفعل موجات الضباب التي راحت تنهال على المكان وتجبر عينيه لان توغلا النظر بالاشياء .
تنامت بداخله رغبة الصراخ وتسللت الى فمه ملوحة الدمع وهو يسائل قضبان السكة الحديد ... لمَّ يحدث لي كل هذا ..؟ فأنا حمد ... حمد الذي امست حياته محطة انتظار لم يتوقف بها الريل ولو لمرة واحدة .. وصارت ايامه لا تألف غير الوحشة والخوف والانتظار .
تكاثف الشيب براس الليل .. وتأخر الريل كعادته .. فكر كثيراً قبل ان يتخذ قراره ... انه سيكتفي بسماع معزوفتة عن بعد .
صمتت صفارا الحراس الليليين ولم يعد في المكان من ضجيج سوى ضربات قلبه التي اعتادت التناغم مع عجلات الريل ... تك ... تك ... تك ... كان يفهم ما تقوله العجلات وهي تلامس قضبان السكة العارية .
اجهده الانتظار وشعر بالنعاس ... وضع رأسه على قضبان السكة واستسلم لسلطان النوم ... وقبل ان تلمح العيون ضوء الشمس ايقضه صوت ما يشبه كركرة الاطفال فلمح جسده بلا رأس وهو يرقد على قضبان السكة الاخرى . راوده شعور بان قضباني السكة الحديد سيلتقيان ذات يوم .. ويستعيد جسده .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد