الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور غابت وذابت في الشموس

عدنان الظاهر

2007 / 11 / 22
الادب والفن



في جلسة رومانسية مع صاحبي أبي الطيّب المتنبي وفي مقهى مطل ٍّ على ضفة نهر خيالي يقع على تخوم بعض جنات الخُلد ... فتحت موضوع الصورة في شعره . قلت له إني لم أقرأ في ديوانك كله إلا بيتاً واحداً ذكرت فيه لفظة (( صورة )) . قال تقصد البيت الذي ورد في قصيدتي التي نظمتها في ( أرجّان ) من بلاد فارس عام 354 للهجرة في مديح الوزير إبن العميد ؟ إستدركتُ فقلتُ بل بيتين لا بيتاً واحداً . قال إقرأهما فقرأتُ :

تَعِسَ المهاري غيرَ مَهري ٍّ غدا
بمصوَّر ٍ لبسَ الحريرَ مُصوَّرا

نافستُ فيه صورة ً في سترهِ
لو كنتها لخَفيتُ حتى يظهرا

أطرق مفكراً بعمق ثم قال : وجدتُ القومَ هناك يلبسون الديباج مختلفاً ألوانه وفيه النقوش والزخارف والصور فأُخذت بهذا الأمر وكتبت ما كتبت . هل لديك تعليق آخر ؟ سأل المتنبي . أجلْ يا متنبي . قال تفضّل .
لعل ـ قلتُ ـ هذه القصيدة التي أعطيتها عنوان (( أرجّان أيتها الجياد )) هي القصيدة الثانية في ديوانك الشعري التي تبدأها بالتغزل بالممدوح نفسه ، خلافاً لباقي قصائدك التي تفتتحها بالغزل بالصبايا والغزلان والظباء والريم والرشا وأنت أنت مَن قال بهذا الصدد [[ إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ ]] . قال وما كانت الأولى ؟ إنها قصيدتك الأكثر شهرة التي أقامت الدنيا على رأسك ... تلك التي فاجأت بها سيف الدولة الحمداني بحضور خصومك من زعانف الشعر ومدَّعيه . شرد عني في كثيف دخان سيجارته ، أغمض عينيه ثم شرع يحدو :

واحرَّ قلباهُ ممن قلبُه شَبِمُ
ومَن بروحي وحالي عندهُ سَقَمُ

ما لي أُكنّم ُ حبا ً قد برى جسدي
وتدّعي حبَّ سيف ِ الدولة ِ الأممُ

قال هذين البيتين وكأنه كان يتعبد في معبد مقدس أو يصلي خاشعاً أمام رب لا يراه . واضح ٌعميقُ ودّه ِ لسيف الدولة وندمه على مفارقته وبلاد الشام والإتجاه لكافور الإخشيدي في مصر. ثم لم يلبث أن قال : صدقت يا هذا ، صدقتَ في ملاحظتك ، هنا إستثناءان واضحان ولكنْ ، لكل إستثناء قاعدة وسبب ومبررات . أصغيت لصاحبي وقد شرع ينطق من أعماق قلبه وذاكرته القوية . علام َ هذه الإستثناءات يا شاعر ؟ كانت قصيدة (( وا حرَّ قلباهُ )) آخرَ ما قلتُ لسيف الدولة الحمداني في حلب . كانت نفثة من دم القلب وجمرة في الحشا وكنت قد عزمتُ على مفارقته واللحوق بالإخشيدي الخصي الأسود . ليس فراق مثل هذا الأمير بالأمر السهل خاصة بعد صحبتي الطويلة له في حالي السلم والحرب ومعاشرتي له معاشرة الند للند وما كتبت فيه من روائع قصائدي . ثم ، أضاف ، ما كان الجو المشحون بالأعداء والخصوم الذين حشدهم ضدي أبو فراس الحمداني للإيقاع بي وهيبة الموقف ... ما كانت تسمح بالتغزل بمحبوب غائب والموقف موقف جد وفيه خطر . لذا وجهت خطابي مباشراً لسيف الدولة ، خطابا حاراً ملتهباً فيه مرارة وعتاب وفيه إعراب صريح عن ود حقيقي وعن عرفان بالجميل . لذا قلت فيه في جملة ما قلتُ :

يا أعدلَ الناسِ إلا في معاملتي
فيكَ الخصامُ وأنت الخصمُ والحَكمُ

أحسنتَ ، أحسنتَ أبا الطيّب . أوضحتَ ما قد إلتبس . الآن ، أضفتُ ، ما خطبك تتغزل بإبن العميد وأنت في بلاد فارس لا في حلب الشام والوزير إبن العميد هذا ليس كالأمير سيف الدولة ؟ قال وأين هذا الغزل ؟ قرأتُ عليه مطلع قصيدته ( أرجّان أيتها الجياد ) :

باد ٍ هواكَ صبرتَ أمْ لمْ تصبرا
وبُكاكَ إنْ لم يجر ِ دمعكَ أو جرى

كم غرَّ صبرُكَ وإبتسامُكَ صاحباً
لما رآه ُ وفي الحشا ما لا يُرى

شعر المتنبي حقاً ببعض الحَرج . واصل التدخين الكثيف والسروح في مكان ما لعله هناك ، في بلاد فارس و تحديداً في ( شِعب بوّان ) الذي وصفه أبدع وصف :

لها ثمر ٌ تُشيرُ إليك منه
بأشربة ٍ وقفنَ بلا أوان ِ

وأمواه ٌ تصل ُّ بها حصاها
صليلَ الحلي ِّ في أيدي الغواني

أين شردت يا شاعر ؟ فاجأه سؤالي ، نفث وجبة أخرى من دخان سيجارته ، هز َّ رأسه وعيناه لا تستقران على حال ثم أجاب : كيف لا أتغزل بإبن العميد الفارسي المتشيع الجميل والأديب الكاتب الشهير وكنت أكثرت من التغزل في مصر بالقرد الكركدن العبد كافور الأخشيدي ؟ لا تنسَ ، قال ، زرت بلاد فارس بعد مغادرتي مصر بفترة قصيرة ، وحين قارنت حالي مع كافور والعزلة الخانقة التي فرضها عليَّ مع ما وجدت في ضيافة إبن العميد وما فيه من خصال ومواهب وكرم يد وخلق لم أستطع مقاومة الإسترسال مع الطبع والتغزل بالممدوح متجاوزا ً بنات حواء ، سيّما وقد وجدت فيه من جمال الوجه ما لم أجده في الكثير من النساء . أحبُّ الوجوه الصبوحة يا هذا وأنا أساساً وأصلاً عراقي كوفي ... زاد فقال .
تركنا مقهانا كي نتمشى قليلاً قبل حلول موعد الغداء . هل يعجبك هذا الشارع المحاذي للنهر ؟ قال كل الإعجاب . يذكّرني بضفاف الفرات عند الكوفة ودجلة في بغداد ونيل مصر وقويق حلب . لكنك لم تذكر في أشعارك أنهار بلاد فارس يومَ كنتَ هناك ! قال كنت مشغولاً بجمال الطبيعة والجبال وما فيها من باسق الشجر وأنواع الورود والفاكهة التي لم أرَ لها مثيلاً في العراق والشام ومصر .
أخذتني ساعة الغداء لعالم آخر ، عالم يخصني أنا لا أبا الطيب المتنبي . إستغرقني موضوع الصورة في الشعر فرحت أبحث وأجول في عالم الصور الحقيقية . ماذا سأصنع بما تراكم لديَّ وفي أجهزتي ومجاميع الصور [ ألبومات ] ؟ ماذا سأفعل بصور الشمس التي غابت فجأة عني ولم تشرق ثانيةً وكانت يوماً شمساً لا تغيب أو عودتني أن لا تغيب ؟ لم أكن أتناول طعامي بإنتظام ودقة . كان فكري مشتتاً مضطرباً مهزوزاً ففقدتُ أغلب رغبتي في الطعام . أكثرت من تناول السوائل دفعاً لهاجس القلق وما أعاني من تمزق داخلي عنيف . لاحظ عليَّ ذلك ضيفي المتنبي فقال لي : ما بك يا صديق ؟ كلْ و (( دعْ الأقدارَ تفعلْ ما تشاء ُ // وطبْ نفساً إذا حضرَ الغداء ُ )) ... ضحكت ، أضحكتني روح الدعابة في صاحبي الضيف . ترددت قبل أن أتجاسر فأقول : صورك الشعرية يا متنبي أحالتني إلى ركام . قال خيراً إن شاء الله ؟ نعم ، أحزنتني صورك وذكرتني بما خزّنت في ذاكرتي وأجهزتي من صور حبيبة لأناس جدَّ عزيزين عليَّ . أنت فارقت بلاد فارس وجمال وجوه أصحابها من وزراء وأمراء وملوك لكنَّ ما لديَّ من صور لم تفارقني ولا أستطيع مفارقتها . قال وما وجه الضرر في ذلك ؟ عايشها كما لو كانت معك كما كانت في سالف الزمان . البشر يغيبون يا أبا الطيب لكنَّ صورهم تبقى ولا تغيب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طرد كوميدي شهير وصف نتنياهو بـ-النازي- في فرنسا.. ما القصة؟


.. أحمد فهمى و أوس أوس وأحمد فهيم يحتفلون بالعرض الخاص لفيلم -ع




.. أحمد عز الفيلم المصري اسمه الفيلم العربي يعني لكل العرب وا


.. انطلاق فيلم عصابة الماكس رسميًا الخميس في جميع دور العرض




.. أوس أوس: هتشوفونا بشكل مختلف في فيلم عصابة الماكس وكل المشاه