الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايتي مع بدرخان السندي

ميسون البياتي

2007 / 11 / 24
سيرة ذاتية


عام 2000 كنت أقيم لستة أشهر في إحدى الدول الخليجية التي كنت أشغل فيها عمل أستاذ زائر. وفي إحدى العطل الطويلة استخرجت تصريح مرور بري وذهبنا الى أبو ظبي للتسوق , أنا وزميلة خليجية معي في الجامعة .
في شارع حمدان وهو الشارع الرئيسي في أبو ظبي والمركز التجاري للمدينة توجد عمارات عالية مبنية ببذخ شديد , بقيت أتلفت وأعاين عليها لأن تلك كانت زيارتي الأولى لها .
زميلتي الخليجية لاحظت تلفتي فسألتني : كيفها بغداد ؟؟ ألا تملكون عمارات مثل هذه في بغداد ؟
نظرت إليها وقلت ودون تفكير : لا .. ولكن نحن دفننا رجال في العراق , واحدهم أعلى من أعلى عمارة في هذا الشارع عدة مرات .
في تلك اللحظة مرت أمام عيني صور كل من غيبهم الموت الأسود الظالم , وتذكرت كل زملائي في الدراسة والعمل الذين طالتهم أحكام الإعدام لأسباب تافهة , لاتستدعي حتى التوقيف في مخفر في بلدان أخرى , ومن ضمن من تذكرتهم تلك اللحظة هو الصديق العزيز الأستاذ الدكتور بدرخان السندي , كنت أعرف أنه قد أعدم وإليكم الحكاية : -
في العام 1989 كنت أعد وأقدم برنامج المجلة الثقافية من قسم البرامج الثقافية في تلفزيون العراق . البرنامج كان يأخذ كل وقتي , ولم أكن أسجله دفعة واحدة , بل على شكل مقاطع أو فقرات , نقوم بربطها معا ووضع المقدمة والنهاية لها في غرفة المونتاج يوم الأربعاء صباحا من كل اسبوع , ويعرض البرنامج في مساء نفس اليوم .
ذات يوم إثنين من أسبوع ما عام 1989 , كان لي موعد مع الأستاذ الدكتور بدرخان السندي لتسجيل لقاء قصير معه حول مجموعة شعرية صدرت له , وفعلا جاء وسجلنا المادة .
الدكتور بدرخان شخصية لطيفة جدا , دمث الخلق , وسيم , يحمل دكتوراه بعلم النفس من بريطانيا , محدث لبق وذو ثقافة واسعة , وشاعر . لا يمكنك وأنت تلتقي به إلا أن تعجب به وتشعر أن العراق بخير حين يكون فيه رجال بهذا المستوى .
يوم الأربعاء صباحا , حملت مقاطع البرنامج وذهبت الى الأستاذ نصر محمد راغب رئيس قسمنا وطلبت منه التوقيع على ورقة إدراج المواد في حلقة اليوم قبل أن أذهب الى قسم المونتاج لترتيب الصيغة النهائية للبرنامج . نظر الأستاذ نصر في محتويات الحلقة , ثم نظر في وجهي وهو مصفر رعبا وقال بعبارات متهدجة : ميسون .. إرفعي لقاء بدرخان السندي من الحلقة . قلت له مستغربة : وكيف نرفع أجمل مادة في حلقة اليوم ؟
قال وهو لايستطيع بلع ريقه : إرفعيها , المكتب الخاص أبلغوني أنه قد أعدم .
يا ألله ... أعدم !!؟؟ أول البارحة كان معنا , أي محكمة هذة التي حاكمت وحكمت ونفذت في يوم ونصف ؟؟
حالة الخوف كانت تصيبني بالإختناق , وبعد إعدام عدد من زملاء الدراسة والعمل , صار عندي شعور أننا نشبه الغنم التي تعلف في مرعى , وبين الفينة والاخرى يأتي الراعي لسحب واحد منا الى المسلخ . ولم يكن باليد حيلة , حب الوطن يكون مشكلة أحيانا , من ناحية ثانية , أبواب الوطن مقفولة علينا بمنع السفر الذي استمر حتى 1991 .
ومنذ العام 1989 وحتى العام 2004 , كنت كلما تذكرت أصدقائي الراحلين بألم , أذكر الدكتور بدرخان واحدا منهم .
في منفاي الباسفيكي الرائع , الذي رغم كل جماله وهدوئه إلا أنني ومن قاعدة ( أمي هي أجمل النساء ) لن أرى بقعة في الكون أجمل من العراق , كنت أتصفح الصحف العراقية على الأنترنت ذات يوم عام 2004 , شاهدت أيكونة مكتوب عليها : جريدة التآخي . ياالله ,, عادت جريدة العراق الى اسمها الأول , فلأفتح وأقرأ , تحت اسم الجريدة مباشرة مكتوب (( رئيس التحرير : الدكتور بدر خان السندي )) قلت مع نفسي : هذه ربما أعداد قديمة من الجريدة قبل إعدامه الله يرحمه , لكني عدت ودققت التاريخ , كان تاريخ اليوم من عام 2004 , قلت بداخلي : بعض المواقع تظهر تاريخ اليوم حتى لو كانت المادة قديمة ولهذا يجب أن أتأكد من حداثة العدد أو قدمه بقراءة ما مكتوب . وكانت الأخبار أخبار اليوم .
مباشرة كتبت إيميل للدكتور بدرخان ذكرته في بلقائنا التلفزيوني الذي لم يعرض وسألته عن القصة , وأنا واثقة أن هنالك شيء ما خطأ , في اليوم التالي استلمت ردا من الدكتور يذكرني فيه ببعض مادار بيننا من كلام في ذلك اللقاء , ويعلمني أنه لم يعدم , وأنه بسبب كلام ورد في أحد مؤلفاته , تم تأوليه خطأ من بعض حملة العنجهية والغرور والرؤوس الفارغة , كان قد أحيل الى التحقيق ثم الحكم بالسجن عدة سنوات , أتم منها فترة قصيرة ليشمله العفو العام الذي أعقب الغزو الأمريكي عام 1991 , لكنه ظل بعدها تحت الإقامة الجبرية .
بكيت من فرحتي وأنا أقرأ الإيميل ,, وتمنيت لو أن كل الذين غابوا أو غيبوا عنا يمكنهم الرجوع بعد أن انتهت الحرب .
اليوم حين أرى صورة الأستاذ بدرخان السندي ومقالاته تزين المواقع أشعر بفرح شديد اننا لم نفقده وظل بيننا زاهي العطاء .
تحية للأستاذ الدكتور بدرخان السندي وتحية لكل خير من أهل العراق مازال يثابر ويعطي وينتج متساميا على كل الجروح والمحن , أنتم وحدكم الذين تشعرونا أن الدنيا ما زالت بخير , رغم وجود الحثالات والسفالات والزمن الرديء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كثر المغيبون
زهير الهويدي ( 2011 / 8 / 6 - 15:36 )
سيدتي..الواضح ان للمثقفين ومفاخر العراق الادبية والعلمية موعد مع التغييب جسدي كان ام فكري وما قوائم الذين لفهم التراب والاعداد الكبيرة منهم خارج الوطن الا خير دليل ,,ولكني اسأل الى متى..تحياتي

اخر الافلام

.. كا?س العالم للرياضات الا?لكترونية مع تركي وعلاء ???? | 1v1 ب


.. فـرنـسـا: أي اسـتـراتـيـجـيـة أمـام الـتـجـمـع الـوطـنـي؟ •




.. إصابة عشرات الركاب بطائرة تعرضت لمطبات هوائية شديدة


.. حزب الله يحرّم الشمال على إسرائيل.. وتوقيت الحرب تحدّد! | #ا




.. أنقرة ودمشق .. أحداث -قيصري- تخلط أوراق التقارب.|#غرفة_الأخب