الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راعية السلام والحرية

عبدالجليل الكناني

2007 / 11 / 24
الادب والفن


لمّا يزل الدكتور عارف عبدالمجيد يواجه اللحظات الساخنة وهو يحدّق بدهشة في وجه مريم سليمان التي وقفت قبالته بابتسامة قاسية وجريئة وهي تقول :
- لقد حسبت كل شيء بدقة وكانت هذه النتيجة .....

لم تكن ، بدءا ، حسابات مريم سليمان ، إنما حسابات الدكتور عارف الذي كان قد رأى مريم ، أول الأمر ، في عيادته ، صبية باهرة الجمال تعاني من اضطرابات نفسية مبعثها الخجل الشديد والقلق المفرط والخوف . انه رهاب مركب لم يألفه من قبل , حريٌّ بأن يفتك بها
إلاّ أن الدكتور العبقري ، وبدفع من عبقريته الفذّة ، بالإضافة إلى دافع آخر استفزه بقوة ، ألا وهو التدله ، قرر أن يتوج أبحاثه بالتجربة الجريئة
- لِمَ الخوف؟ . انه الوهم .. وهم نخلقه نحن ، قيود نصنعها ونؤمن بها ..
- ... أرجوك يا دكتور . ليس بخطابات الشجعان تفك إساري ومعصميَّ ينوءان تحت وطأته
- إنها الأوهام يا مريم ..
- بل هي القيود الصلبة القاسية ..
- القيود الأكثر وطأة إنما هي القيود التي تنشأ في دواخلنا . فلو جمعت قيود الأعراف لكل الأمم لسجنت في قمقم . ولو أخذت مجمل عوامل الحرية في كل منها لما وجدت قيدا ، ولعدت كما ولدت حرّة .
- أنا لن أكون حرّة إلاّ بقدر ما تكون الأسيرة حرّة حين يداعبها السجان

كان الدكتور عارف ، وبفعل خلفية فكرية تحولت من كل إلى أساس بنى فوقه أفكاره اللاحقة ، يرى أن الإنسان حرية مطلقة ، فكانت طرق العلاج التي يتبعها تنبع من هذه الأفكار ، من حرية القرار وتنوع الخيارات ، ليحرر مرضاه ، بكل الوسائل المتاحة ، من قيودهم ويمنحهم طاقة ودفعا يكونون بهما سعداء
لولاّ انه في الحقيقة كان ينقلهم من حالة مرضية إلى أخرى ، من حالة تبعث على الاكتئاب والتعاسة إلى أخرى من البهجة والانتشاء ، وبكل وسائل الحرية المتاحة ، كما أسلفنا ، بما في ذلك العقاقير . حتى أنه قد دفع البعض على تناول الكحول فأحس بالنجاح حين لم يعد أي منهم لمراجعته بعد ذلك ، إلاّ أنه أدرك متأخرا أن غالب هؤلاء قد تحول إلى مدمن للكحول أو العقاقير المهدئة . مما جعله يراجع حساباته ويعيد دراستها فخلص إلى نتائج بعثت به لابتكار طرق مركبة للعلاج . لم تؤاته الفرصة المناسبة لتطبيقها إلاّ بعدما رأى مريم وأحس برغبة عارمة لامتلاكها . لأن يتمتع معها بالحرية المطلقة ، وأن يطبعها بأفكاره ويصوغها من جديد .
ومريم التي سئمت مخاوفها ، سئمت وحشة الليل وأشباحه والوحوش المتربصة فيه ، سئمت أخطاءها وسخرية الآخرين ، مكر الماكرات وغدر الحاسدين والنيّات المبيتة والكراهية والعداوات المقيتة . ألقت بنفسها كليا بين يدي الدكتور عارف ليقرر لها زيارات مكثفة . وإذ تسأله عن الحقن يجيبها إجابة غامضة حول تنظيم الهرمونات . فكان يحقنها أولا ومن ثم يسمعها قصصا بصوته الحالم الشجي ، لكأنما يتلو عليها تراتيل طقوسية في معبد أسطوري .
كانت تخرج من عيادته طرية مترعة بالنشوة والرضا . وقد سألها ذات مرّة متأملا عينيها الزرقاوين :
- هل تصدقين أن العيون الزرق حسودة؟ . أجابته :
- وهل العيون تبعث أم تستقبل
- العيون كلها مستقبلات
- إذن ، إن صح واقع الحسد ، فيجب أن تُحسد لا تحسد

باتت مريم تسترجع أحاديث عارف وقصصه التي غالبا ما تنقلها إلى عوالم ساحرة حرة . عن الإنسان الذي لم تكبله الحضارة ذلك الذي سكن الكهوف وطاف في الغابات وتسلق القمم وألقى بنفسه عاريا في المياه النقية التي لم تلوثها فضلات المعامل والبشر . عن فارس يختطف أميرته من قصرها المنيع كالسجن بعدما يخادع حراسه ويسخر منهم ويقاوم بفروسيته الفذة تصديهم له ويخرج إلى الغابة منطلقا بحصانه كالسهم فتطلق ذراعيها كطير ينعم بالحرية .
السكينة والقناعة والرضا جعلت تدبُّ في أوصالها وأنحسر الخوف حتى تجلى الوهم هشا . لقد غُسلت أعماقها بفيض من ضياء ساحر بدد مخاوفها ، تساقطت كأوراق الخريف ليأتي بعده ربيع مؤتلق وضاء ينغرس في أديم الأرض . فسخرت من أوهام الذين سخروا منها ، وتعالت على من أذلها . فالكل أغبياء واهمون ، ليست سوى ذاتها خالصة ، لا حقيقة لغير ما يقره عقلها ، ولا دافع غير ما تحسه بحواسها ، فجسدها ملك لها ، وغرائزها ملكها ، وإنها إن لبت دعوته ، إنما تلبي نداءات روحها ، لتستقر بين يديه في سكون الهمس
- لم أدرك يوما أن سأحقق هذا النجاح . كذلك قال لها فبادرت بالقول :
- بغيري لم تكن لتحققه ، فأنا لدنة طيعة وأكثر ذكاء مما تتخيل . كل ما فعلته أنك أوصلتني إلى السطح بعيدا عن قيد الآخرين لقد حررتني إلاّ أنك لم تصنعني .
وليكشف الدكتور عارف ما آلت إليه نتيجة العلاج راح يسألها
- ما رأيك إذن بعلم النفس ؟
- علم يحتاج إلى علاج نفسي .
- بنظرية آينشتين ؟
- أظنني لو أمعنت النظر بها لسخرت منها
- الباراسيكولوجي ؟
- خرافة العصر . أستطيع به أن أجعل المثقفين يؤمنون بالطنطل والجان والأشباح . أجعلهم عجائز هذا العصر
- لقد صرت حرّة .
قال لها ذلك وراح يتأمل وجهها الذي فارق طفولته فقالت:
- بت أرى سطح الواقع بوضوح ، أرى كل ما لا يراه الآخرون ، أراهم عراة لا من ثيابهم ، إنما من جلودهم وأوهامهم .
- تقصدين كما أراهم أنا
- لا ليس كما تراهم . فان تعطي منظارا لأحد لا يعني أن تبصر ما يبصر . لقد أخرجتني إلى أرض الواقع وبقيت تحت السطح .
قال ذاهلا :- كيف ؟!
قالت :- هل تستطيع أن تخرج الى الشارع عاريا ؟
- طبعا لا
- وما السبب ؟
- انه فعل مخجل ومهين .
- ولكنني أستطيع ، ولن أشعر بالخجل أو المهانة ، بل يمكنني الآن أمامك دون أن أعطيك الفرصة للإساءة إلي ، و لا يصدني وازع من أن أفعلها في الشارع .
- والناس؟!
- الناس أغبياء ينسون أنهم ولدوا عراة وقد ضربوا على مؤخراتهم . وما علينا نحن العقلاء سوى أن نظهر أمامهم كما يريدون ، ولكن لو أردنا لا بد أن نفعل ما نريد ونسخر منهم ونستغل غبائهم .
قال الدكتور بهمس مسموع كأنما يحادث نفسه :- يبدو أنني قد صعدت بك أعلى مما يجب
- أنت أردتني حرّة لتمارس معي حريتك
- أنا أردتك حرّة لأنني أحببتك .
- وأنا أحبك أيضا ، كل الحب ، ولكني لا أريد أن أبقى ، كما تضن ، امرأة صنعتها ولا أريد لك أن تصنع واحدة غيري ، فأنا الوحيدة التي تمتلك الخصائص الفذة المميزة والحرية المطلقة لأن أكون .
لم يكن الدكتور عارف مصدقا لما يحدث ، ولن يعي أنه حدث ، فقد مرَّ مرورا سريعا ، أسرع من نصل السكين الذي انغرز في قلبه بقوة وثبات فتناهى إلى سمعه آخر ما استطاع أن يميزه من كلماتها ، وهو يحدق بقوة في وجهها الذي ارتسمت عليه ابتسامة قاسية جريئة وهي تقول :
- لقد حسبت كل شيء بدقة فكانت هذه النتيجة ....

بعد عام من مقتل الدكتور عارف أنهت مريم دراستها الإعدادية . وبعد عامين تركت مريم الدراسة الجامعية وهربت إلى أحد الدول المجاورة . وبعد ثلاثة أعوام تزوجت مريم من سفير دولة استعماريا العظمى ارنست جورج .
وبعد ثلاثين عام أصبحت (ماريا جورج ) وزيرة لخارجية استعماريا وراعية للسلام والحرية في الشرق الأوسط








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا