الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غثيان

ايناس البدران

2007 / 11 / 24
الادب والفن


حين خطت خطواتها الاولى بأتجاه الشارع لفحت وجهها على حين غرة رياح رملية باردة ، فعجبت في سرها من اجتماع النقيضين !
والواقع انها لم تعد تخرج الا لماما بعد ان قل احساسها بالخارج ،فكل الاصوات باتت مشوشة ، و الوجوه شاحبة ممسوحة و الشوارع مصدر خطر حقيقي يهدد بتلف الاعصاب مع ما فيها من مطبات تحولت بفعل الزمن الى اخاديد مزمنة للماء الآسن .
لم تصادف احدا ممن كان يعرفها لحسن الحظ اذ لم تكن في مزاج يسمح لها بتبادل الثرثرة مع احد ، وبما ان كل شيء تغير حولها في تلك المدة القصيرة ،لذا كان لزاما عليها التريث حتى تجد من يمكن ان يدلها على اقرب صيدلية.
نثت السماء قطرات باردة داعبت وجهها ، فأفتر ثغرها عن ابتسامة طفولية.. كان المطر يحاول ان يخبرها بشـــــئ ، لم تكن علاقتها بالمطر او سواه كما هي الان فقد صارت تتقبل كل شيء بصبر و تحكم الرتاج على ما اهمها في حجيرة قصية من تلافيف العقل . لأدراكها عقم الكلام مع من لا يهمه الامر ، في زمن يضيع الصمت فيه ، يجتزئ المسافة بين كذب و عدم ، لذا تجاهلت الأمر برمتة و تظاهرت ان كل شيء على ما يرام.
مر بها شابان سمعت احدهما يقول للاخر :
- كأنما لا بد ان يموت هؤلاء ليعيش اولئك.
رد الآخر بضجر :
-وهل تسمي هذه حياة ..الحياة هناك .
و اشار بذراعه الى ما وراء الافق
اقتربت من احدهما مستغلة برهة الصمت التي سادت بينهما و قالت :
- من فضلك اين يمكن ان اجد اقرب صيدلية ؟
اشار الى بناية من طابقين في الجانب الاخر من الشارع،وعاد ليكمل حديثه قائلا :
-لاتصدق ما يقولون ، فالحرب كانت دوما شرعنة للقتل و لكل ما هو غير شرعي .. و حين تكشر عن أنيابها تذوب الاقنعة ليخرج الوحش داخلنا .
ودت لو سالته :
- اي وحش تقصد ؟! لكنها خشيت سخريته ثم انها في عجلة من امرها و لابد ان تعود قبل ان يغرق كل شيء في اغفاءة الغروب.
حال ولوجها الصيدلية غمرتها اضواء شاحبة .. كان الخوف قد تحول الى خنجر يأكل الخاصرة.. سمعت الرجل ذا الروب الابيض :
يخاطب شيخا قائلا :
- اننا لن نعيش ابدا كما كنا ايام الكهف،فعالمنا اليوم يمزق فيه بعضنا بعضا
تقدمت منه ببطء كانت تحاول ان تجد صوتها .. اخيرا قالت :
- من فضلك ..هل لي بدواء ضد الغثيان ؟
يبدو انه لم يسمعها اذ انه لم يعرها التفاتا و استمر في حديثه مع الرجل المسن و هو يشير الى التلفاز
- انظر ..يتحدثون كنجوم السينما كما لو كانوا ابطالا بالفعل .
ثم غير من لهجته الساخرة ليقول بمرارة :
- ان الابطال الحقيقيين جنود مجهولون .. هكذا هم دائما..وابدا سيظلون .
قال الشيخ :
- انظر الى هذا انه يكذب بمنتهى الصدق لدرجة انه يصدق نفسه .
تنهدت .. لعله محق فيما يقول فألناس وان كانت تكره الكذب الا انها لا تطيق الصدق ، لعلها تحب الكذب المزوق او الصدق الكذوب ، فكلنا يود ان يسمع ما يود سماعه .
تنحنحت قليلا علها تلفت انتباهه ثم قالت بصوت حاولت ان يبدو اثقا قدر الامكان :
- اريد ..حبة دواء ضد الغثيان .. من فضلك .
منذ متى وهي تعاني منه ؟ربما مذ وعت الدنيا ، وقد جربت معه انواعا مختلفة من الحبوب و الفيتامينات دون جدوى .
تذكر اول مرة انتابها فيه كان ذلك حين تركها والدها بمفردها عند البوابة الحديدية صـــباح ذلك اليوم الخريفي ، يومها ظلت عيناها تتابعانه وهو يبتعد لتضيع معه بذرة أمان كانت ترقد متململة في ســـويداء القلب .
بعدها كابدت اياما لاتدري كم عددها وهي تقضم الخوف مع قرص السميط الناشف لتزدرده مالحا ممزوجا بالدمع .
ويوم حملتها الفراشة وهي شبه جثة لتسلمها الى والدها كمن يسلم عهدة يروم التخلص من مسؤوليتها لتقول لوالدها :

- انها تعاني غثيانا ...
فعلق الوالد باسما :
- لماذا ... ماذا اكلت ؟
وحين ازداد الغثيان وتكررت نوباته اخبرها الطبيب المخضرم بهدوئه المعهود ان الحل لا يكمن بالدواء و انما في معرفة الداء .. ووجدت ان كلامه منطقي و معقول ، فبدأت تبحث قي تلافيف عقلها الكامن و الواعي عن السبب .
اول ما خطر في بالها ان السبب قد يعود لاهمال احد الابوين اوكلاهما بحجة الانشغال بلقمة العيش .. حين ينفش ديك البيت ريشه ليخطب كزعيم تاريخي قائلا :
- انما انا افعل هذا لأجلكم
وهو يعلم .. و هم يعلمون انه انما يفعل هذا ارضاء لزهوه وتحقيقا لطموحات هي في الغالب لا تنتهي ،وحين يجد الوقت الكافي اخيرا يكون الأوان قد فات فيعمد كل طرف الى مد جسور واهية تفضي الى مزيد من خيبات الامل .
قد يكمن السبب في اننا لا نصغي الى بعضنا ..حين قال لها ذات يوم لا ينسى و بصيغة الأمر :
- ستتزوجين من هذا الرجل فانه الأنسب ، انه يشبهني تماما .
من قال انها تريد رجلا يشبهه ، رجلا اتهمها ذات يوم بالبرود و السلبية ، مما دفعها الى ان تصرخ في وجهه، ذلك انه هو الاخر لم يكن يصغي .. لعل المشكلة تكمن في اننا لا نصغي لبعضنا و بالتالي لا نفهم .. او لا نريد ان نفهم .
"الحياة لم توجد لتفهم " روجيه غار ودي قال هذه الحكمة ، ولكن شكسبير قال "ان تعلم اكثر يعني ان تتعذب اكثر " ا يكون الغثيان الضريبة التي ندفعها حين نعلم أكثر ؟!
لكنها اصيبت به حتى قبل ان تعلم او تعي شيئا مما يجري حولها .. لعل السبب كامن في الاحساس .. . في ان حواسها مرهفة اكثر مما ينبغي .
لقد شعرت بهذا في اليوم المشؤوم بعد الدوي الهائل ، حتى كأن اذنيها استبدلتا بأذني قطة ! وبلغت الاصوات درجة من التردد فاقت قدرتها على الاحتمال ، وعلى يمينها جثة تلك المراة وهي غارقة في السواد ، وسواعد رجال ترفعها لتكومها في عربة يد خشبية فيما دماؤها تشخب من بين الشقوق .
بعدها انبثق صوت من وسط الدخان يتساءل بهستريا :
- ماذا سنصنع بها ؟
رد عليه صوت :
- نضعها في ثلاجة الطب العدلي
صوت ثالث يدخل سباق الحوار :
- لاتحاولوا .. لايوجد مكان هناك
- ندفنها في المقبرة
- بدون تصريح؟ ثم انه لايوجد مكان شاغر في اية مقبرة قريبة
- نحرقها اذن كي لا تصيب الناس بمرض
- هل انعدمت من قلبك الرحمة ؟
- معك حق فأنت لم تر جثة مضت عليها ايام
- نتركها في العربة الخشبية حتى يأتي من يتعرف عليها
- ا ليس صاحب العربة رجل على باب الله ؟
كان اللغط يزداد و الاصوات من حولها تتعالى لدرجة باتت معها على وشك الصراخ .
ايكمن السبب في انها ترغب في الصراخ لكنها لا تستطيع ؟
لقد اختنقت .. اختنقت بصرختها اكثر من مرة ، وكانت الصرخة تكبر في صدرها تستحيل دخانا يهدد بالاختناق .
يوم اكلت الغيره قلبها اذ رأت الحبيب بصحبة تلك الحسناء ، فأشتعلت روحها بأتون الجحيم .. تلك الروح التي تعلم جيدا انها لن تهدأ الا معه .
يومها جربت ان تصرخ فتشظت صرختها حروفا بلا صدى ادمت قلبها .
تذكر انها حين دخلت بيتها استشعرت وحشة لم تعهدها من قبل ليلتها سرت القشعريرة في كل جزء من جسدها و عافت نفسها الطعام .
وحين حاولت النوم اكتشفت انها فقدت جفنيها في الانفجار َ! و مع كل ... قررت ان تنام فأسدلت الستائر ووضعت على باب غرفتها يافطة كتب عليها (يمنع الاقتراب او التصوير ) لكنها لاحظت ان كل من هب و دب بدأ يدخل ويخرج على هواه حتى اتسخ المكان بدرجه لا تطاق .
مع اقتراب شمس اليوم التالي من كبد السماء علا ضجيج الهمرات و ابواق المركبات و صفارات النجدة و الاسعاف و الاطلاقات و التفجيرات
فأدركت استحالة النوم ، وخمنت مع نفسها ان الامانة ربما حولت بيتها الى شارع عام و نسيت ابلاغها .. كان هناك ثمة اختناق مروري استدعى تدخل بائع النفط الذي دخل هو الاخر غرفتها بعربته و حماره .. كتمت غيظها وسألته :
- بكم الصفيحة اليوم؟
فألشتاء على الابواب و عليها ان تستعد له ولو بصفيحة
رد عليها بأستعلاء :
- انك لن تقدري على ثمنها
عندها بلغ الغثيان مداه ..ما جعلها تهرع الى الصيدلي الذي نظر لها ليقول باستفزاز :
- ا هذه انت ؟ الم تموتي ! اسمعي يا سيدتي ان العلم الذي تلقيته على مدى سبع سنين يؤكد ان الاموات ليســــــوا بحاجة الى دواء من أي نوع .. ثم الا يكفيني ما الاقي من الاحياء حتى يأتيني الاموات ليفقدوني عقلي ؟
تراجعت ... اذ ادركت انه في مزاج سيئ ، اتجهت صوب الشارع الإسفلتي .. كانت الريح المنبعثة من جوف الليل مثلوجة تخترق الروح .
قالت لنفسها فيما يشبه الهمس :
_ سأكرر المحاولة في يوم اخر ... . ربما .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي