الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاصفة أخرى في فنجان

صبحي حديدي

2003 / 11 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


«مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم بامرأة تتغنى: هل عليّ وَيْحَكما/ إنْ هويتُ من حرج؟ فتبسّم وقال: لا حرج إن شاء الله». بهذا الاقتباس يستهلّ الشاعر المصري أحمد الشهاوي كتابه الأخير «الوصايا في عشق النساء»، والذي صدر مطلع هذا العام عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، ثمّ صدر بعدئذ في سلسلة «مكتبة الأسرة» الشعبية واسعة الانتشار. وفي نماذج أخرى من استهلال الكتاب ذاته، يبتهل الشهاوي إلى ربّه هكذا: «اللّهم أرسلْ لي شفيعاً بيني وبين مَن أعشق». وهكذا: «اللّهم لا تلمني فيما لا أملك وهو الحُبّ»، وهكذا: «{ربّنا لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} وهو العشق».
هذه نماذج (استهلالية، ولكنها عالية الإبلاغ عن محتوى النصوص التي ستلي) من الكتاب الذي تقدّم النائب المصري مصطفى محمد مصطفى ببلاغ ضدّه في مجلس الشعب المصري، طالباً التحقيق في أسباب نشره ضمن سلسلة رسمية تابعة للدولة، معتبراً أنّ مطبوعات كهذه «تستهين بالدين وتستفزّ مشاعر المسلمين»، وتدخل تالياً في باب إهدار المال العام. واقتبس حضرة النائب هذه النماذج، في التدليل على احتجاجه متعدّد الأوجه: «لا لا تضيعي العمر في نوم الليل لأنه خُلق للعشق»، و«نصيحتي أن تمرّغي خدّك على باب عشيقك»، و«خذي كتاب عاشقك بيمينك فأنت أمّ الكتاب». وهذا برهان أوّل ساطع على سطحية تفكيره وبهتان حجّته وضحالة قراءته.
غير أنّ التطورات اللاحقة كانت مؤسفة تماماً، ولكنها لم تكن مفاجئة أو غير منتظرة: رئيس مجلس الوزراء المصري أحال بلاغ النائب إلى الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، الذي سارع بدوره إلى اتخاذ القرار الكلاسيكي المعهود بسحب «الوصايا...» وإحالته إلى لجنة قراءة للتحقيق في صحة مساسه بالدين، فضلاً عن إحالته إلى الأزهر الشريف... لالتماس الحكم الشرعي! صحيح أنّ الدكتور سرحان سارع إلى تعديل قرار سحب الكتاب وتعميم رأي اللجنة (الإيجابي، الشجاع، الذي يردّ التهمة عن الكتاب، ويذكّر بأنه «نصّ أدبي رفيع المستوى يستخدم المجاز والخيال والإبداع الشعري»)، إلا أنّ الإحالة إلى الأزهر ما تزال ــ حتى ساعة كتابة هذه السطور ــ إجراء رقابياً ـ قمعياً مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، والاحتمالات السيئة بصفة خاصة!
وبادىء ذي بدء، لا بدّ من تفادي الوقوع في الفخّ، الذي بات اليوم خياراً كلاسيكياً معهوداً بدوره، بعد أن تكاثرت أمثلة السعي إلى مصادرة حرّية التعبير بذريعة المساس بالمقدّسات، وانحطّت ثقافة السجال حول الفارق بين الواجب والحقّ، وضعفت شروط المقاومة المضادّة أمام معسكر جاهلي (إسلاموي!) جديد يرتدي عشرات الأقنعة الزائفة التي لا صلة تجمعها بدين حنيف سمح منحاز لحرّية العباد وحقوق الإنسان أولاً وأخيراً. وهذا الفخّ يتمثّل في محاولة ردّ التهمة عن النصّ الخاضع للتأثيم والتجريم، عن طريق البرهنة (المصطنعة، غالباً) على أنّ العكس هو الصحيح، وأنّ النصّ يحترم المقدّسات ويبجّلها ويصونها ويحرص عليها...
ليست هذه هي استراتيجية الدفاع الحقّة، في يقيني، كما أنها بالتأكيد ليست التكتيك المبدئي لأنّ المثقف هنا ليس محامياً لوذعياً شاطراً يستثمر قاعدة «داوِها بالتي كانت هي الداء»، أو يبحث عن ثغرة هنا أو ثغرة هناك في ملفّ الخصم. وما هو مطلوب، في الاستراتيجية كما التكتيك، هو الإصرار على الدفاع عن «الوصايا في عشق النساء» في المستوى الجمالي ـ الإبداعي، وليس في المستوى التأويلي ـ الفقهي؛ وبمعنى حقّ الفنّ في التحليق أعلى والتوغّل أعمق والتعبير أبلغ، وليس «واجب» المراوحة أسفل «خطّ أحمر» وهميّ جاهليّ قسريّ وقمعيّ. وهكذا، فإنّ الواجب الأكبر أمام المثقف، المستنير المؤمن بالحقّ والحرّية، هو الدفاع عن جماليات «الوصايا...» بوصفه عملاً أدبياً تنهض قِيَمه الفنية من ــ وتُصنع إشاراته الأخلاقية والدلالية في ــ حقول أخرى خصبة الأرض عالية السماء رفيعة الشأو مطلَقة الآفاق، لا صلة البتة تجمعها بتلك البيداء الدامسة الراكدة الجامدة، حيث الإنسان معتقَل والخيال مكبّل والتأويل ضيّق مغلق مسدود!
وإذا كان حضرة النائب مصطفى محمد مصطفى يمثّل نفسه في استهداف «الوصايا...»، فإنه على نفسه جنى، ولن يحصد من الريح التي زرعها سوى عاصفة تنقلب عليه. أمّا إذا كانت «جماعة الإخوان المسلمين» المصرية تقف وراء هذه الهجمة، فإنها أغلب الظنّ إنما ترتكب خطأ فادحاً بالمعنى الأخلاقي، وجسيماً بمعنى اعتبارات وجودها أساساً في صفّ المعارضة، وباهظ الثمن بالمعنى السياسي. ليست هذه معركة المواطن المصري، كما أنها بالقدر ذاته ليست معركة المواطن العربي، في هذه الأيّام التي تشهد على الأرض (وليس في مخيّلة الشاعر) عشرات الوقائع الأمريكية أو الصهيونية الفاحشة البربرية الوحشية، التي حقاً «تستهين بالدين وتستفزّ مشاعر المسلمين». ثمة عواصف أخرى، فعلية عاتية هوجاء، غير هذه العاصفة الكاذبة عن «الوصايا...»، والتي لا تهبّ إلا في فنجان...
ولدى الجماعة، غنيّ عن القول، زادّ وفيرٌ وفيرٌ في فلسطين والعراق!

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف مهدت والدة نيكو ويليامز طريقه للنجاح؟


.. لبنانيون محتجزون في قبرص بعد رحلة خطيرة عبر قوارب -الموت-




.. ستارمر: -التغيير يبدأ الآن-.. فأي تغيير سيطال السياسة الخارج


.. أوربان في موسكو.. مهمة شخصية أم أوروبية؟ • فرانس 24




.. ماهو مصير هدنة غزة بعد تعديلات حماس على الصفقة؟ | #الظهيرة