الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جذور

خالد درويش

2007 / 12 / 1
الادب والفن


حلم: خالد درويش
اقتادني عساكر السجن بالركلات والشتائم عبر الممرّ البارد، المضاء بالكاد الى غرفة التحقيق. دفعوني بقوّة وأوصدوا الباب فإذا بي على حافة سرير معدني بجانب طاولة خشبية تبعثرت عليها وثائق رسمية تخصّني: شهادة ميلادي، بطاقات الشكر والتقدير والترغيب الخضراء والزرقاء، تلك التي حصلت عليها في المدرسة الإبتدائية، وكتاب تاريخ بأوراق مهلهلة مصفرّة، كنت قد زيّنت هوامشه أثناء التحضير لإمتحان الإجتماعيات في الصفّ السادس بقلوب قلقة تخترقها سهام تنتهي بأسماء من أحبّ من بنات الجيران: ليلى، زينة، مسرّة...
على بياض الجدار أخذت تتضح خطوط وكتل سوداء وتتشكّل ملامح وجه رجل في الأربعين بشعر كثّ، عينين حازمتين، أنف دقيق وشاربين أسودين يتدليان على شفاه غليظة. خطر لي أن المحقّقين الطيّبين يظهرون على هذا النحو عادة فإذا بشفتيّ الرجل المرسوم على الجدار تنفرج عن إبتسامة ودودة. تململ الرجل قليلا ليتحرّر من اسار الجدار ثمّ نزل دفعة واحدة الى الكرسي خلف الطاولة.
تصفّح المحقّق مستندات وتقارير قضيّتي وقال:
"أنت متّهم بالمشاركة في احتفالات عيد النيروز مساء 21/آذار/1977؛ أيّ التضامن مع الأكراد. وهذا يعني تهديد أمن الدّولة. وعقوبة ذلك...الاعدام".
ارتعدت فرائضي، تلعثمت أفكاري وسرت في جسدي قشعريرة باردة، فهدّأ المحقّق الطيّب بعضا من روعي قائلا:
"سأساعدك، سأمنحك فرصة أخيرة، إمتحان بسيط، إن إجتزته بنجاح سيلغى حكم الإعدام".
ضغط المحقّق جرس استدعاء الحرّاس فظهرت بالباب إمرأه شابة وجميلة برفقة طفل وديع بشعر أشقر وعينين زرقاوين. سارت بالطفل الى وسط الغرفة، انحنت لتحلّ ازرار سرواله وقرفصته ليتغوّط على السجّاد الفاخر.
ضغط المحقّق جرس الاستدعاء من جديد فهرع في الحال جنديان، أدّا التحيّة العسكرية، انهمك أحدهما بتنظيف عانة الطفل من بقايا البراز بمنديل أبيض، وتقدّم الآخر نحوي. علّق على عنقي حبلا رفيعا تدلّت منه على صدري بطاقة تحمل المعطيات التالية:
"اسم المعتقل: خالد أحمد علي درويش
رقم المعتقل: 6548
تاريخ الاعتقال: 19/7/1983
الادانة: تآمر على الشعب
درجة الحكم: اعدام
تاريخ التنفيذ:.........".
قيّد معصميّ، واقتادني بجلافة الى صالة الامتحان، فيما كان زميله يرفع سروال الطفل، يحمله بين ذراعيه ويقبّله بحرارة.
في الممرّ المؤدي الى قاعة الامتحان سلّمني الجندي الى مجموعة من حرّاس السجن الّذين حلّوا وثاقي وانهالوا عليّ بالعناق والتّقبيل. لم يكن الحرّاس حرّاساً، بل زملائي من قسم الصباغة في "الشركة الأهلية للغزل والنسيج" حيث كنت، ومنذ سنوات أقضي عطلاتي الصيفيّة عاملا موسميّا بنظام المياومة.
مطأطئ الرأس، مغتمّا مشيت وزملائي من شركة النسيج في جنازة الحاج نعيم، ميكانيكي قسم الصباغة في الشركة. وكان الحاج نعيم نفسه يمشي بمحاذاتي في الجنازة/ جنازته. حيّيته بايماءة فصافحني وربّت على كتفي يواسيني في محنتي هامسا:
"لا تهتمّ!، انه امتحان بسيط مكوّن من سؤال واحد، أنا واثق من أنك ستنجح".
سألت الحاج نعيم؛ الميّت/ الحيّ أن يطلعني على السؤال الذي سيحدّد جوابه مصير وجودي، فتلفّت يمينا، يسارا والى الخلف، ولمّا ميّز بين المشيّعين بعض العسس والمخبرين اعتذر لي غامزا بعينه، عاضّا شفته السفلى.
في صالة الامتحان الواسعة وقفت وحدي ازاء طاولة كبيرة تشبه طاولة البلياردو، تبعثرت على سطحها المخمليّ الأخضر جذور أشجار بأحجام وأشكال مختلفة. وكان عليّ، بمقتضى الامتحان أن أكوّن من هذه الجذورالرطبة المتربة، في غضون ساعة هيئة رجل ممدّد على مخمل الطاولة.
تنتهي مهلتي عند شروق الشمس. وعليّ، حتى ذلك الحين أن أخلّق من هذه الجذور الميّتة ما يشبه الرجل الحيّ. بقلب خافق بدأت أصابعي الواجفه تعبث بالجذورالمبعثرة: هذا الجذر للعينين وهذه للأصابع؛ هذه القطعة تصلح للكتف وتلك للذراع... وفجأة باغتت خلوتي امرأة جميلة في الثلاثين مثل نسمة في نهار قائظ.
"أنا الكابتن شهيرة!".
قالت وهي تدنو منّي برائحتها المفعمة بالأنوثة وهندامها العسكري الذي لم يقو على اخفاء كلّ مفاتن الجسد، وأردفت وهي تمسك يدي وتبعدها عن الجذور:
"لدينا المزيد من الوقت. سأعينك على انجاز الوظيفة. لن يستغرق منّا ذلك أكثر من خمس دقائق. تعال معي!".
ذهبت معها مستسلما لسحرها، مطيعا يدها التي أخذتني الى الفناء المجاور بحنان أمّ تأخذ ولدها الى العيد.
لم أجد في الفناء المجاور ما يدلّ على العيد، ولكنني ألفيت بوّابات مفتوحة على ميادين الاعدام. بوّابات متعدّدة بتعدّد تهم المدانين وتنوّع ذنوبهم: ميول ماركسية، تعاطف مع الاخوان المسلمين، عرفاتيون، أكراد...
على الحوافّ الشرقية من السماء أخذت الغيوم تحمرّ ايذانا بشروق الشمس.تنبّهت وإنتابني قلق فعدت الى جذوري. لم يبق لديّ سوى دقائق معدودات. حاولت، بأصابع مرتبكة تنضيد بعض الجذور لتكوين الرأس بلا جدوى. وضعت جذورا الى جذور لتشكيل الحوض أو القدمين فأخفقت. لا مناص، عليّ أن أحاول من جديد، ولكن هيهات. لاح أوّل قرص الشمس فيالشرق البعيد، عمّ نور الصباح وزعقت صفارة الإنذار تعلن إنتهاء وقت الإمتحان. رفعت يديّ، ابتعدت خطوة ورحت أحدّق في الجذور المتناثرة علّني أعثر في تبعثرها على هيئة إنسانية ما.
وقفت على مشارف حقل فسيح أتأمّل مئات العمال وهم يغطّون الارض كلّها بالإسمنت. كانوا يدفنون جذور امتحاني ريثما يأتي المحكّمون فيحكمون.
فرغ العمال من تغطية الجذور، لملموا معاولهم ورفوشهم، صعدوا الى الشاحنات العسكرية التي كانت في انتظارهم وانصرفوا.
إنصرفوا وبقيت وحدي أتأمّل الساحة الإسمنتية الشاسعة... وفجأه أخذ الإسمنت الطريّ على بعد خطوات يتشقق وتظهر منه أصابع قدم بشرية ترتعش فإرتعشت روحي بالغبطة والحبور وهتفت:
"لقد أفلحت. سأحيا!".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-