الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبارات سيئة السمعة

إكرام يوسف

2007 / 12 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


مواطنو الدول الكبرى ينعمون بالدعم العيني والنقدي معا صونا للاستقرار!

لا بد أن كثيرين ممن تجاوزت أعمارهم الأربعين عاما، باتوا يتطيرون من عبارة "توصيل الدعم إلى مستحقيه" التي عرفها الخطاب الإعلامي والسياسي المصري، تطل برأسها من حين لآخر منذ أكثر من ثلاثة عقود. فقد أصبحت هذه العبارة سيئة السمعة ومثلها عبارة "تحريك الأسعار" مرادفا لنذر شؤم في أذهان محدودي الدخل. ولا شك أن كثيرين مازالوا يتذكرون كيف انتشر استخدام عبارة "ضرورة وصول الدعم إلى مستحقيه" في وسائل الإعلام الرسمية، وبعده ارتفع شعار "أهمية تحريك الأسعار" الأمر الذي أدى إلى غضبة شعبية عارمة عرفت باسم "انتفاضة يناير الشعبية" في الخطاب المعارض و"وانتفاضة الحرامية" في الخطاب الرسمي، في18و19 يناير 1977 ولم تتم السيطرة عليها إلا بعد إعلان حالة الطوارئ ونزول قوات الجيش إلى شوارع العاصمة لقمع الانتفاضة وإعادة الهدوء، بعدما تكبدت الدولة خسارة ملياري دولا نتيجة الأحداث.
ومازلنا نذكر كيف جرى "تحريك الأسعار" فعليا بعدها، بهدوء ودون إعلان، وعبر أساليب التحايل التي صارت معروفة؛ بداية من ترك سعر السلعة الغذائية دون تغيير مع تخفض وزن العبوة عدة جرامات، مرورا بتغيير مسمى السلعة (من منا لا يتذكر الرغيف المحسن والرغيف الطباقي الذي ارتفع بسعر رغيف الخبز البلدي إلى خمسة ثم عشرة قروش بنفس الوزن الذي كان عليه نفس الرغيف عندما كان سعره نصف قرش) وصولا إلى رفع الأسعار تدريجيا دون إعلان.
وعندما خرجت عبارة "توصيل الدعم إلى مستحقيه"، لتطل من مكمنها على صفحات الصحف السيارة بعد إعلان الدكتور أحمد نظيف خلال المؤتمر العام للحزب الحاكم، عن نية حكومته تحويل الدعم العيني على السلع إلى دعم نقدي بحلول نهاية يونيو من العام المقبل، تحسس الملايين جيوبهم الخاوية، وتوجسوا شرا مما ينتظرهم في مقبل الأيام، خاصة مع ما لمسوه من ارتفاع غير معلن في أسعار فواتير الكهرباء. بل أن الارتفاع سرعان ما طال الطعام الذي لا يستغنى عنه المصريون والذي ارتبطت في أذهان الآخرين ارتباطا شرطيا بتعريف المصري. فزاد سعر ساندويتش الفول المدمس على عربات الباعة الجائلين بمعدل الربع ليصل إلى جنيه مصري لكل ساندويتش، بسبب ارتفاع أسعار الفول المستورد الذي واكب خفض الدعم على طعام الفقراء الرئيسي.
وينتفي أي احتمال للاتهام بالمبالغة في قولنا أن الملايين من المصريين توجسوا من التطورات المقبلة؛ إذا أخذنا في الاعتبار ما جاء في تقرير التنمية البشرية المصري والصادر عن معهد التخطيط القومي عن عام 2006 من أن 28.7% من السكان يعيشون تحت خط الفقر أي أن 18.3 مليون نسمة يعيشون بأقل من دولارين في اليوم ـ بينما تقدر إحصاءات أخرى عدد المصريين تحت خط الفقر مابين 30 و40 مليونا. وجاء تصريح وزير التنمية الاقتصادية بأن أربعين في المائة من المصريين لا يستحقون دعما لتزيد الطين بلة وتقذف بالهلع في قلوب الفقراء.
وعلى الرغم مما تستند إليه الأوساط الحكومية من أن الدعم يستنزف سنويا مائة مليار جنيه من الموازنة العامة للدولة، وأن نسبة كبيرة من هذا المبلغ تذهب إلى غير المستحقين، وربما تتسرب إلى مافيا السوق السوداء؛ إلا أن العديد من الخبراء ـ ناهيك عن الملايين ممن فقدوا ثقتهم في اهتمام حكومي حقيقي بالفقراء ـ يتخوفون من إقدام الحكومة على تصرف يزيد الاحتقان الذي لم تعد مظاهره خافية في أرجاء المجتمع المصري، وينذر بغضبة قد يصعب احتواؤها على غرار ما حدث قبل ثلاثين عاما. ويرى خبراء أن الموقف الحكومي لا يهدف بالفعل لتوصيل الدعم إلى مستحقيه بقدر ما يهدف في المقام الأول إلى التخفي من حدة عجز الموازنة العامة.

فشل متوقع

ويتخوف الكثيرون من أن أي تحرك لإلغاء الدعم العيني محكوم عليها بالفشل حاليا على أنه ليس هناك ما يبشر بأن الحكومة لديها من الوسائل ما يمكنها من تحديد الفئات المستهدفة بالدعم النقدي، والمبالغ الكافية لدعم هذه الفئات. ويصعب الوصول إلى بيانات حقيقة عن المواطنين المستحقين للدعم النقدي، مع تزايد أعداد العاملين بالاقتصاد الموازي الذي يضم وفقا لتعريف مكتب العمل الدولي "هو مجمل النشاطات الصغيرة المستقلة بواسطة عمال أجراء و غير أجراء و التي تمارس خاصة بمستوى تكنولوجي و تنظيمي ضعيف، و يكمن هدفها في تكوين وظائف و مداخيل لأولئك الذين يعملون فيها و كما أن هذه النشاطات تمارس بدون الموافقة الرسمية للسلطات لا تخضع لمراقبة الآليات المكلفة بفرض احترام التشريعات في مجال الضرائب و الأجور الدنيا و الأدوات المشابهة الأخرى المتعلقة بقضايا الجباية و ظروف العمل". ووفقا لهذا التعريف، يصبح من الصعوبة بمكان في بلد مثل مصر التي ذكر تقرير حكومي نشر قرب بداية القرن الحالي أن عدد أصحاب المشروعات غير الرسمية قدر بنحو 1.4 مليون فرد وهو ما يعادل 82 في المائة من أصحاب الأعمال كما قدرت العمالة غير الرسمية في الاقتصاد بنحو 8.2 ملون عامل مقارنة بنحو 6.8 في القطاع الخاص و 5.9 في الحكومة. وهكذا يتضح أن الأمر سينتهي بالحكومة إلى إجراء زيادات على أجور العاملين في القطاع الحكومي والذي يأتي في الترتيب الأخير من حيث عد العاملين بعد العمالة غير الرسمية والعاملين في القطاع الخاص. وحتى بافتراض أن عدد العاملين في الحكومة يساوي ثلث عدد العاملين في الدولة فنحن هنا أمام حل يستبعد ثلثي عدد العاملين حيث أن القطاع الأعظم من العمالة غير الرسمية، بل وحتى العاملين في القطاع الخاص يئن من وطأة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. وتلاقي الأغلبية العظمى منهم الأمرين في مجرد تدبير القوت الضروري، ناهيك عن تدبير مصاريف العلاج أو التعليم أو السكن. وتشير الخبرات السابقة إلى أن مجرد الإعلان عن نية زيادة الأجور، يؤدي عادة إلى ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار المعيشة على نحو يهدد بكارثة بالنسبة لمحدودي الدخل والفقراء، تلقي بظلال مرعبة على فرص استقلال البلاد. فضلا عن أن حتى هدف تخفيف عجز الموازنة لا يمكن تحقيقه بمجرد التخلي عن الدعم العيني واللجوء للدعم النقدي؛ لأن توصيل الدعم النقدي إلى مستحقيه، بافتراض إمكانية تحديد هؤلاء المستحقين بدقة، يعني بالضرورة تحميل الموازنة بند الدعم النقدي الذي يتعين أن يكون معدلا لمستويات ارتفاع التضخم، بما يحمل موازنة الدولة عبئا لن يقل كثيرا عن عبء الدعم العيني.

خطط عشوائية

وهكذا يتضح أن أي محاولة جادة تهدف إلى "توصيل الدعم إلى مستحقيه" فعلا، لا يمكن أن تتم إلا وفق تخطيط حكومي مخلص، تتولاه حكومة تضع نصب أعينها الحل الشامل لأزمات الاقتصاد القومي المتشابكة ككل. ولن يتم هذا إلا بعد إدراك خطورة حالة التخبط الناجمة من محاولات إرضاء الأغنياء والمستثمرين بكل السبل ولو على حساب الغالبية الساحقة من المستثمرين؛ الأمر الذي لا يحدث بهذا القدر من التمادي حتى في أكثر البلدان التزاما بقوانين السوق الحر. ويتناسى المتشدقين بشعارات الاقتصاد الحر، أن أعتى بلدان ما يسمى بالاقتصاد الحر لم يغب عن بال صناع السياسة فيها أهمية الحفاظ على الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمحدودي الدخل، حفاظا على الاستقرار المجتمعي. حتى أن الولايات المتحدة التي يلهج البعض بحمد نظامها الاقتصادي الحر آناء الليل والنهار، مازالت تطبق نظام الدعم العيني في صورة كوبونات الغذاء للفقراء، والتأمين الصحي الشامل، فضلا عن الدعم النقدي المتمثل في إعانات البطالة، وهو الأمر السائد في مختلف الدول التي اختارت اتباع نظام السوق الحر. فعلى من يريد التقليد أن يكون أمينا في المحاكاة مع الوضع في الاعتبار الوضع المأساوي لمحدودي ومعدومي الدخل عندنا مقارنة بفقراء تلك الدول.
ويبدو أن حال التخبط التي يمر بها الاقتصاد القومي ترجع في جانبها الأكبر إلى أننا مازلنا نتحرك وفق خطط عشوائية قصيرة النظر، تهدف كل حكومة من خلالها إلى ترحيل المشكلات وتأجيل تفاقمها عبر اللجوء للمسكنات الوقتية. في حين أن أي نظرة متعقلة للأمور تؤكد أن قضية الدعم لا يمكن حلها إلا في إطار شامل يتضمن خطة تنمية تخلق فرص عمل حقيقية للقضاء على البطالة، مع وضع حلول علمية لمشكلات التعليم، على النحو الذي يضمن زيادة الإنتاج ومن ثم ارتفاع مستوى الدخل القومي. مع الوضع في الاعتبار بنفس الدرجة من الدقة العلمية وصدق النوايا، تحقيق مستوى مرض لتوزيع الدخل يضمن للمواطنين حدا أدنى من الحياة الكريمة، يمكن عنده التفكير ـ وقتها فقط ـ في تخفيض مستوى الدعم؛ من دون المخاطرة باستقرار البلاد ودفعها إلى مجهول كارثي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ