الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العام ما قبل الأخير من إشراقات باهتة

محمد الإحسايني

2007 / 12 / 2
الادب والفن



زملائي في شركة الأصباغ مصابون بالعجروم، يعانون من نتوءات امتدت حتى الأفكار.

تفككت علاقاتي بهم نتيجة لذلك، ولأنني أصبحت بدوري أتوهم أن مادة ما، لصقت بأصابعي، وأنني ملوث.زملائي يتبركون صباح مساء بالسيد مدير الشركة. أرجعت هذه الظاهرة إلى التسلق الوظيفي.
في الأيام الأولى من تعيينه كمدير جديد للشركة، انتفخ بطنه من عملية المساس والتدليك.انتحل الزملاء كتابة السير الذاتية، ثم اتجهوا إلى الطريقة الإعلانية. طبعوا»كاتالوجات« عن مناقب المدير. عقدوا الندوات الصحفية لصالحه. لم يقابل المدير كل ذلك ببرودة. حتى في إحدى الندوات، تحدث عن الفن، والفلسفة، والأدب، والسياسة. أما مستقبل الشركة؛ فقد تجنب الحديث عنه في كل الندوات، لأن أحدا من المنظمين لم يدرجه في جدول الأعمال.
ولما انتهى من الرد على الأسئلة، حاولت أن أصافحه بحرارة، أعرض عني مفهما إياي : » إنك ملوث. لا تصافحني هكذا.. «.
وبعد شهور متوالية من العمل الجاد، سرت في المدينة فضيحة تتعلق بالشركة. لقد اكتشفت لجنة المراقبة غشا في الخلائط ؛ ومع أن زملائي لم تكن لهم يد في ذلك، غير أن التواطؤ جاء بشكل غير مباشر.
وأتذكر أنه منذ عشرات الأعوام، لم تنجب مدينتنا شخصا مستقيما يمكن الاعتماد أو الائتمان إليه في كل دقيقة أو عظيمة.
بحث الناس عبثا عن الحكمة في أفواه المجاذيب الذين جاءوا المدينة متنكرين في ثياب مهلهلة، تسبقهم كثافة دخان الحشيش: » النرجيلة تكلمت. أولاد الحرام كثرت.. هذا قرن أربعتاش لا دنيا ولا معاش. أربعة رجعوا تناش« ولكل منهم طريقته...
أفظع ما تواجهه المدينة من الناحية الشرقية، هجوم صغار الحيوانات على بني الإنسان، تلعق جروحهم، تعضهم، وأحيانا، تتجاهلهم، فتتخطاهم.
عندما كانت طائرات الحلفاء تغير على المدينة ليلا، قيل إن في استطاعتها أن تخربها عن آخرها. وكان أحد " البوهالة " يفغر فاه، ويهذي بكلام غير واضح المقاطع فيما كانت العواهر يمارسن العملية مع الجنود الأمريكيين والحمير.
المدينة فاسقة، (حقت عليها كلمة العذاب)؛ وقد تعلمت الدواب هي أيضا، بعض المباذل من جنود الاحتلال.
- تأخرتُ في قضاء بعض الأعمال الخاصة في المدينة القديمة ذات مساء من أيام الاحتلال... أسرعت خطاي قبل حلول موعد إعلان منع التجول، صادفني في الطريق ضابطان ثملان. قال لي أحدهما بلهجة ذات لكنة إنجليزية: - أتعرف أن في إمكاننا تدمير مدينتكم عن آخرها؟ -أجل... - حسنا، أتعرف إحدى الفاطمات؟

أحسست بالهلع، حركت رأسي بالنفي، تأملني الضابط قليلا، ركلني ركلة قوية، أعقبتها ضحكات الجنود الآخرين.

2

آخر ما حدث في الشركة : خاصمني زملائي كلهم، وذلك لما حلت لحظات مساس بطن المدير، وهي ظاهرة فذة من نوعها: ينتفخ بطنه، يتحول إلى بالون ضخم، عبارة عن كتلة مجوفة، تمتد الأيادي للمس، يعم ظلام دامس، ثم تستشف الإشراقات عن صورة المدير الأصلية وهيئته كما كان قبل التعيين. ولما كنت بدوري غير مستقيم في بعض الأحيان، أعرضت عن اللمس إذ أنني أغسل يدي، وأخلل أصابعي عدة مرات في اليوم، وأتوهم أشياء لا وجود لها.
نشطت إدارة الشركة في تحرير تقارير سرية ضدي، نعتني الزملاء بأنني» شخص قذر«. وقد خيل إلي أنني أتآكل من الجرب، بالرغم من أنني لم ألاحظ أي أثر للبثور في يدي، أو قلاع في فمي، أو لساني. كذلك إنني لا أشكو من تضخم في إليتي أو عجرمة، مثل باقي الزملاء ؛ شيء واحد كان يساورني : كان مجرد وهم !
كيف لا تشتد على أمثالي أوهام ملعونة ؛ فكثير من زملائي نزلوا مصحات للأمراض التناسلية ؟
لا أكاد أغفو هنيهة حتى أنهض من فراشي أتفقد إليتي. في الثلث الأخير من الليل، حلمت أن المدافع تقصف ظهر المدينة، وان المواطنين رهن الردى، بالعشرات، بالمآت، بالآلاف، بالملايين؛ وأن الحيوانات الحقيرة ذوات الأشكال الخرافية سيطرت على المدينة، أخافت الأطفال والنساء.
تفقدت إليتي.. غابت واحدة منها في بطني.. تلمست الأخرى بظاهر كفي، صرخت:
- النجدة !... النجدة!
الحي كله يهرع إلي.. سألوني :
- ما بك ؟
- أخشى فقدان رجولتي.
تهامسوا، تبادلوا ضحكات ساخرة، ثم انصرفوا. قررت أن أغادر الحي والشركة، بحثا عن أي عمل عضلي. لقد تأكد لي، بما لا يدع مجالا للشك، حقيقة واحدة ؛ النزول إلى مصحة للأمراض التناسلية ؛ فنصف المدينة عاقر. أعوام العقم لم تنته بعد.
في الشركة أحاط بي الزملاء، أكدوا لي أن خصومتهم لي شريفة، أكد لي أحدهم: »يكفي أن تشاركنا في لمس بطن المدير، لا شك أنك فطنت إلى سر اللعبة؟.«
وقال زميل آخر :
» أنفي مثل أنفك، ويداي مثل يديك... لكن مع فارق في الموهبة، لا بد لك أن تأخذ بنصيبك من هذه الموهبة«.
رفضت.

3

امتطيت " الأوتوبيس" في عجالة، القضبان الحديدية حامية، ومكهربة، أحدثت في جسمي ارتعاشات أذهلتني حتى حسبتها هلاكي، أنا الذي كنت أبحت عن النجاة.
توقف » الأوتوبيس « في الشارع الرئيسي... وجدت صعوبة في إزالة يدي من القضبان المكهربة، ركلني القابض لأجدني أقفز بحركة آلية إلى الطوار الآخر. اتجهت إلى العمارة المواجهة، البارزة في الشارع، حيث عيادة الدكتور "جاك أرنو"، اختصاصي في الأمراض التناسلية. قرأت اللوحة النحاسية من جديد : »الدكتور جاك أرنو...الطابق الثامن« .
تملكني الابتهاج، سوف أحظى بحديث ودي وصريح، وسأضع حدا لشكوكي ومخاوفي. من لا يعرف " جاك أرنو" الاختصاصي في الأمراض التناسلية ؟ إنه أيضا صديق الطفولة. ولكم تعاركنا في الصغر، وعرف بعضنا قوة بعض.
دخلت المصعد. ضغطت على الزر الثامن: الطابق الأول، الثاني، الثالث... المصعد يتوقف. ينطفئ الضوء. أضغط على الأزرار كلها: أعيد الكرة: الطابق الأرضي، الأول، الثاني، الثالث، فجأة ينفتح الباب، سيدة في مقتبل العمر، غضة، ينم صوتها عن نبل :
- عن الدكتور » جاك أرنو« ... ؟
- أجل، كيف عرفت؟
- تفضل معي
- هل أنت ممرضة:
- لا
- تعملين معه؟
- لا هذا ولا ذاك.
انطبق علينا صمت فاصل، ونحن نصعد بقية السلالم. بادرتني:
- كل الرجال في المدينة مصابون بالعقم... وما ذنبنا نحن النساء؟
- ما تقولين فيمن فقد إحدى إليتيه ؟
- حتى أنت؟ .. يا إلهي، إنني لا أصدق !
تركتني في منتصف الطريق، وأخذت تنتحب، تم تلاشى عني بكاؤها كلية، في حين كنت أتابع عملية الصعود بمشقة. ضغطت على جرس عيادة الدكتور... انفتح الباب، واجهتني قامة "جاك" ... مددت إليه يدي عبثا أحاول مصافحته... تجاهلها.
" هل تغير هو أيضا ؟.. عهدي به كان يربط جماعة من اليهود، ثم يفك حزامهم مدعيا أنه أنقذهم من "الجوستابو" أيام الحرب العالمية الثانية، ولا ينسى أن يضيف إثر هذه العملية الكوميدية: " الصداقة هي الصداقة!"، قادني إلى غرفة منفردة، وقبل أن يغلق علي الباب، أفضى إلي:
- لك أن تتربع كما يجلس العرب والهنود، وإلا، فبإمكانك الجلوس على هذا الكرسي المتآكل.
وقهقه، ثم أضاف على الطريقة الفرنسية في السخرية:
- أحب أن تظل واقفا، » صديقي القديم« إذا لم تستشعر الإعياء.
التفتت يمنة وشمالا. فقط، هناك على منضدة قديمة مجلات طبية ونشرات تتحدث عن اكتشاف أنواع من الفيروس. لم أع منها حرفا على الإطلاق، ضربت عنها صفحا. اتجه نظري إلى المجلات النسائية الموضوعة في جانب آخر من المنضدة. قلبت صفحاتها باعتناء. لم تكن تفوتني شاذة ولا فاذة من أخبار النجوم : الشهرة لها ثمن في هذا العالم الغريب. نجمة سنمائية انتحرت حفاظا على كرامتها. تذكرت زملائي في شركة الصباغة: الموتى منهم ماتوا ميتة طبيعية.
بعد لحظات، جاءني بنفسه، تبعته إلى العيادة. ألقى علي السؤال العادي:
- مما تشكو؟
- من » الابلوتومانيا«، ومن حدوث فطر في ظهري
- انزع عنك الثياب حالا
- أنا؟
- ومن إذن، غيرك؟ هل أنت ساذج؟
رماني بنظرة مؤلمة صارمة، أسرعت معها إلى إزالة ثيابي عني كلها.
قال في حركة آلية :
- ضعها على الكرسي!
- الكرسي؟ قد يجلس عليه المصابون بأمراض تناسلية، أنت تع...، لا...
- قد جلست عليه فعلا قبل ثوان، هل نسيت ؟
أخيرا يسمح لي بوضع ثيابي على منضدة منفصلة عن بقية أثاث العيادة. وقال في لهجة مؤنبة :
- أنت دائما كعهدي بك، معاند.
- في مثل هذه الأحوال يجب أن يكون عندكم مشجب وستار.أنصحه.
نفس النظرة الصارمة تأمرني بالسكوت.
هرولت في العيادة؛ وهو يجري ورائي، أبحث عن مغسل. أشكو من ثلوث يدي بداء غريب. دار في ذهني شك قاتل : » لماذا لم يصافحني ؟» لمحت بريق فتحة الحنفية، فتحتها عن آخرها. انبثق تيار مائي ساخن. وبكل قواي وجدتني أغسل يدي دون أن آبه لحرارة الماء.
ما كنت لأتوقف لولا صفعة شديدة منه. عند ذاك، تنبهت إلى الحنفية، أغلقها امتثالا.
أما هو؛ فقد عمد إلى غسل يديه بمحلول كيماوي. " ماذا يصنع طبيب مصاب بداء مزمن لمريض مثلي؟ "
أعاد علي نفس السؤال السابق، ثم أضاف بلهجة مغربية :
ارفع إليتيك، مدد جلدتهما أمام العدسة. شعرت بحرج. وبعد تردد أخبرته: "إنني أملك إلية واحدة، أما الأخرى، فقد دخلت في بطني« تأمل أسفلي بعدسة مكبرة عن كثب، همهم :
- الآن علمت... إنه فيروس الحب. سأكتب لك وصفة ناجعة. ( حمدا لله ! لن يرهق » جاك« ميزانيتي بكميات من الدواء، اكتفى بتحرير دهان للقضاء على الفيروس وأقراص " ألفيتـ..." للحد من تفاقم الأوهام).
وقبل أن يعطيني الوصفة، أمرني :
- ضع ورقة خمسين درهما على الطاس أولا! امتثلت لأوامره، خطف الورقة من الطاس النحاسي. أدخلها جيبه بسرعة، ثم عمد إلى غسل يده بالمحلول الكيماوي.
لم ينس، وهو يودعني على الباب أن يصافحني :
- ركز عينيك في خالقك... اشتغل بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك.
قلت:
- هذه حكمة قديمة!
قاطعني:
- أعرف! وفوق ذلك ؛ نحن الأطباء، لا نؤمن إلا بما يثبته قانون العلم، ولكنها النصيحة!

4

أثناء صعودي الدرج، إلى مقر عملي، قطع علي هدوء اللحظات الصباحية، جلبة أصوات تنم عن خصام، عن صوت سيدة نبيلة. وكلما اقتربت من مكتب المدير، ازداد الصوت وضوحا، ولم ألبث أن تراءت زوجة المدير، وهي تشق قميصها، احتجاجا عن أنوثة مهانة.
» كل شعرة من جسدها الغض، تعوي... «
دفنت عيني في راحتي. كانت تحاول دحرجة زوجها على السلم، وهي تزبد :
- ما الذي تملكه (هي) أكثر مني ؟.. يالك من جبان وقح ! ثدياها بارزان، ركلته، عضته.
جميع الموظفين مشدودون إلي جمالها بشكل مثير. حاولت جهدها دفع الزوج إلى الأسفل. إنها أمام كتلة منتفخة من اللحم.
كمموا فمها بالورق الصحي المعطر، مسح كل واحد منهم الغبار عن بنطلون المدير. انكشفت أخيرا فتحة ناتجة عن تمزق في مؤخرته.
صاح الشاوش صيحة امتثل لها الجميع. حتى أنا شعرت برغبة في الانصياع:"صرفوا السيدة بالتي هي أحسن".

5

•حاشية على الطرة مع انمحاءات بخط مغربي رونقي :
روي الشاوش الخاص لسعادة المدير، أن هناك أجراسا تدق تحت بنطلون المدير، ساعة معينة من الليل، وأن الجميع يلتذ بسماعها، وأن المدير متأثر باللحظات الممتعة.
في الدرب، لاحظ الناس امرأة مجنونة، ترتدي أسمالا بالية، وتفوه بالحكمة والأمثال.
تضاربت الأقوال في شأنها، وقيل عنها الشيء الكثير... لكن المدينة تسير كلها في أثرها، وأنا أيضا أسير في أثرها، والشمس تسير في أثرها، حتى الغروب، لتبدأ الكرة في الصباح التالي...
الذاكرة، لا تخطئ، ولكنها تشقى... لا تخطئ، لا تخطئ.
الرباط، 1980
من قصص: "مذكرات كلب غير عابئ ولا مخدوع"- طبع ونشر اتحاد الكتاب العرب بدمشق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا