الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رياض .. قوس قزح يعانق الشمس

هيفاء عبد الكريم

2007 / 12 / 2
الادب والفن


لم نكن نعرفهم
لكن هاجساً عميقاً
هو الذي قال:
نحن نعرفهُم منذ الطفولة
(جورج سيرفس)

في بيوت تلك المدينة وبين أزقتها، رسم ظلاله بعطر ياسمين دمشق.. ينساب كالنهرالى الروح،
ليستيقظ فينا نهاراً يمنحنا مطراً ناعما ً، يروي عطشَ غربتنا تلك، ويمنحنا الأمل ، فنتلمسُ وجودنا بين حدائقه، نحنُ عشاق الزنابق المنفيون .
في حضرة روحه البهية ، يفردُ رياض اسرارَ روحه الجميلة اوطاناً ، وملاذاً لعيوننا التي ارهقها البعد ، وكوارث الحروب ، يلتصقُ بنا كطفلٍ يوشك ان ينامَ على الشواطئ ، فيستيقظ بين أسرار القصائد، ولغة الأصابع والعيون، يكتب لنا بالطباشير الملون ، بالقلم ، والريشة ، باصابعه.. يكتبُ على الورق ، وجذوع الاشجار، على ورق الشجر، فوق الماء، في الهواء يرسم لنا القلوب والعصافير ، نتناغم معه، بتلك اللغة الجميلة العذبة ، المنسابة من شلال روحه الندية، يضحكُ ويبكي ، يصرخُ بوجه الطغاة، يغني ، لفيروز أغاني الشتاء الحزينة، وأغاني الحب، يخترق ضباب أيامنا بابتسامته المعهودة، يوعدنا بالموعد الجميل معه:( بكرى بعد الشغل) كي لا يفارقنا ونفارقه، وحين نلتقي به في المكتب ، أو الشارع، أو في بيوت الاصدقاء، نراهُ يحمل لنا آخر الأخبار والآمال ، والقصائد، والكتب. يدهشنا بالحديث بدعابته ، فنودعه في آخر اللقاء ونحن مُحملين بالقصاصات الورقية، وحين ينفذ الورق نلجأ الى أكفنا فنكتب له ، ويكتب لنا فوقها ، بالقلم الأزرق . يستمع الى أصواتنا عبر الحروف، يلتقط المعاني وهو يقرأ حركة الشفاه ، نتبادل الحديث معه ،فيشغلنا بمواضيع عديدة ومتنوعة.
رسم رياض صورة لوطنه، ملونة بألوان الشجر، وعبير الحدائق التي كان يحلم بها، ورسم لنا الطريق.. طريق عودتنا الى الوطن..

كم منحنا ذلك الصديق الجميل الأمل ، وكم توارت تلك الامنيات خلف دموعه، فهو الذي دخل مدننا وبيوتنا وقلوبنا من خلال القصيدة،حتى كاد يتخيل صوراً، للأزقة والشوارع والبيوت، لينسج منها صورا تكاد تتطابق ، مع ما كان يدور في ذهنه من احلام وامنيات، وآفاق جميلة، لحياة عادلة ، وهو ابن القرية ، المتعب حد الأعياء ، من أوجاعه التي كان يخفيها، ومن وجع ومعاناة الناس البسطاء، الذين عايشوه وعايشهم، فأصبحوا جزءا ً من حياته، ويومياته، وتأريخه الذي سجله ، مبكراً في دواوين شعره،متخطياً الزمن والتجربة، والشباب، الى واقع الحداثة التي سبق بها ابناء جيله وما بعده، وهو أبن العشرينات.

من غرفته الصغيرة تلك، والبسيطة ، كان رياض يحلم برغيف الحب، بالعدالة التي يتطلع اليها ،، فيترك نافذته مشرعة ،كي ينطلق منها الحمام الأبيض، رسولاً لكل من يحب، وهو أسير المعاناة والألم والمرض، من تلك الغرفة كان صوته وحده:

في الغرفة الصغيرة الضيقة
اقرأ الصحف والمذابح
في الغرفة الصغيرة الضيقة
أعوي كعاصفة ، وأغرد كسنبلة
انا في الغرفة الصغيرة الضيقة
نهرٌ مكسور
وأحياناً أمة مضطهدة

كما اتعبته غرفة صديقه( الشاعر العراقي مهدي محمد علي): وهو يدخلها من ابواب البصرة العراق، فيشاركه الغربة والحنين الى الوطن:

هيّ ذي غرفتهُ تنهضُ من بين الأنقاض
مسيجةً بدم ٍ وعبير
ندخلها في الليل كقديسين جميلين..

هيّ ذي غرفتهُ
أبعدُ من وطن ٍ
أقربُ من رمش العين الى العين
ويا مهدي
ارنا كفيك
ألم تنم ُ الأعشاب عليك
ألم تورق أغصان القلب
وماذا يحدث لنبات البصرة .... وتراب البصرة

بالحب وحده، أراد رياض أن يسموعلى مساوئ الحياة ، يقتبس المواقف الانسانية فيها ، كي يفلت من قسوة الأيام، فعالمه يتألق في تفاصيل، من مناخ يستعيدُ منهجه من الواقع لينعكس في القصيدة ، فهو الذي أحب الحياة لدرجة، أصبحت فيها قصيدة الشعور ذات البعد الغنائي المشحون بالانسانية ، والتي تقترب من جماليات الحياة اليومية بكل تفاصيلها ، تركزُ علىالأشياء الصغيرة ذات الدلالة الكبيرة ، في ايقاع سريع ، وهذا أمرُ يحتاج الى تقنية عالية :

الحياة حلوة
يقولُ العصفور
ويرتمي ميتاً قرب حذاء الصياد

الحياة حلوة
تقولُ الوردة
وترتمي ميتة ً في يدِ الولد الوسيم

الحياة قبيحة، كريهة، فاسدة ، شريرة
يقولُ الطاغية
ويقضمُ قطعة البسكويت

ربما هو الألم الذي ظل يعتصر روحه ، جعلهُ يؤمن بجدلية الموت،، فعندما تقلب صفحات دواوينه تجد ، القبر، والتراب، والهيكل العظمي،الشهيد،الخنجر.. هي رموز كغيرها ، وظفها رياض حين كان يمسكُ بالزمن قبل أن يفلت منه الى القبر:

الموتى عرفوا
ربما للمرة الأخيرة
كم هي لذيذة حياة الأحياء.

وفي قصيدة الخنجر:
الرجل مات
الخنجر في القلب
والأبتسامة على الشفتين
الرجل مات
الرجل يتنزهُ في قبره

في الحادي والعشرين من شهرنوفمبر من عام1982 وفي مستشفى المواساة في دمشق، نهض رياض، منتفضا فوق سرير المرض والموت الخاطف، ليقول كلمته الأخيرة لكل المرضى الراقدين هناك، (أنهضوا..)،و كأنه بذلك، أراد أن يفلت من قبضة الموت وهو يدركه ، فظل متشبثا بالحياة التي احبها ، رغم الغيبوبة، وكفه تعانق أصابع اصدقائه الذين تجمعوا حوله ، ليقولوا له :

رياض.. لن ترحل عنا...
الا انه أطلق سمعه للمرة الاولى والأخيرة لنداء الرحيل الأبدي.

معذرة أيها الصديق العزيز رياض .. ربما لم أكمل حديثي بعد عنك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط