الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن الأخطاء الجميلة

حمزة الحسن

2003 / 11 / 18
الادب والفن


بموت محمد شكري أو الشحرور الأبيض( عنوان كتاب نثري له: غواية الشحرور الأبيض) يكون زمن الأخطاء الجميلة، الأخطاء البريئة، الأخطاء التي لفرط جملها تكاد أن تكون  إبداعا مشعا، بل هي صارت كذلك بالفعل، قد ولى، ليحل بدله زمن الأخطاء الأخرى، الأخطاء الملعونة، الصفراء، التي لا تنتج سوى العقم والنشاف والحبس وكل المشاعر السلبية.

ومحمد شكري الذي ربما يسمع كثيرون به اليوم في تراجيديا وعي غير جديدة علينا، وكثيرون عرفوا اليوم ان هذا الروائي كتب كتبا مفتوحة، كالجرح، ودفع ثمنا باهظا، حتى صار قدوة ونموذجا، هذا الروائي المنشق هو ظاهرة أكبر من أن تكون روائية، بل ظاهرة فكرية وثقافية وسياسية وأدبية وبشرية غير عادية على أكثر من مستوى.

فشكري ذهب الى المدرسة وهو في عمر عشرين سنة وهو العمر الذي يشيخ فيه العربي ويهرم وتتساقط أحلامه واسنانه وآماله، وفي هذا العمر بالذات قلب هذا الطفل الطنجاوي ( نسبة الى مدينته طنجة) معادلة التعليم والطموح والزمن حيث العربي في هذا العمر بالذات يكون قد بلغ سن الرشد او الخرف ان لم يكن الهرم لأننا من القهر نختصر الطريق إلى المقبرة دون المرور بمراحل العمر الطبيعية.

وهو ظاهرة سياسية فهذا الطفل عاش سنوات الاحتلال والاستقلال وظل بعيدا عن كل ما يخدش الكرامة البشرية دون أن يلوّث وقد يكون الواقع السياسي المغربي قد ساعده على مثل هذه المواقف حيث يستطيع الكاتب والروائي أن يكون، إذا أراد، على مسافة من السجن والدهاليز والتغييب خاصة وأن اللغة الروائية، في الهامش السياسي الضيق قادرة على الالتفاف واللعب والمكر الجميل، وشكري قادر على أن يجعل اللغة مهرة تصهل في الغرف الملكية دون أن يرى أحد هذا الصهيل أو يسمعه أو يشمه، فهذا الثعلب لا يترك أثرا إلا ما تترك الريح في الرمل.

ومحمد شكري حدث روائي لأن هذا الطفل الطنجاوي الأعزل والشريد (قرر)  أن يكون روائيا كما قرر من قبل أن يكون متعلما بل معلما وهو الطفل الشريد الذي عمره أكبر من عمر معلميه أحيانا.

وليس سهلا أن يتخذ المرء قرارات كبرى من هذا النوع، بل ينفذ هذه القرارات بالضد من كل شيء: المجتمع الذي مارس كل أشكال الجرائم عليه( النفي الأخلاقي والاجتماعي والنبذ والاحتقار والتشنيع الخ) والسلطة التي مارست هي الأخرى كل أشكال النفي المعروفة وغير المعروفة من منع روايته( الخبز الحافي) حتى بعد مرور 20 سنة على صدورها وتحولها إلى عمل روائي سيروي شهير، إلى وضع الكاتب نفسه في حقل( المشبوهين) أخلاقيا في كل مكان، وقد شاركتها المؤسسة العربية السياسية والاجتماعية والثقافية في هذا الحجز والمصادرة والتهميش والسطو والجلد.

فلم  يكن هناك اتفاق على محاربة روائي عربي كما هو ذلك الاتفاق البغيض ضد  محمد شكري، ولذلك فإن النعي الملكي لمناسبة وفاة محمد شكري هو أكبر من نعي: إنه اعتراف، رغم تأخره، شجاع، بقيمة الطفل الطنجاوي المحتقر والمنبوذ وغير المؤدب كما تصفه المؤسسات الساقطة كل أنواع السقوط الأخلاقي والسياسي والأدبي والديني.

والذين يصفون أمس واليوم وغدا محمد شكري بالتهتك لا يعرفون معنى النوم في الطرقات في ليالي الشتاء الباردة، بل الليالي البحرية حيث أضواء الفنادق( الراقية) والراقصات وعالم اللصوص الكبار، لصوص السياسة، ولا يعرفون أحزان الصبايا الخادمات وهن يغتصبن كل يوم على هذه المساحة الكبيرة من الوطن العربي حيث تشكل العاهرات جيشا عربيا يكفي لغزو إسرائيل، ومع ذلك فإن المؤسسة الحاكمة (وأشباهها) غير مبالية إلا بالحركات السياسية والأصولية واليسار  واحتجاجات العمال على السقم وهذه المبالاة ليست سياسية أو فكرية بل بوليسية لأن هذه القوى تشكل خطرا على كرسي السلطة.

وشكري على مستوى الأخلاق يعد من كبار الأخلاقيين لأن التعريف الحقيقي للأخلاق لا يضعه الحاكم الساطي على  الحق العام، ولا يضعه الفقيه  الجاهل، ولا يضعه الناقد المتخلف، ولا يضعه الشيخ الذي يبدو في النهار كمؤسسة قيم متنقلة وفي الليل يفح تحت أقدام خادمة صبية هي في عمر الطفولة.

شكري عاش على مستوى الأخلاق وفيا لبراءة  مقيمة في داخله كما يقيم ثعلب أو دب قطبي في فروه داخل مغارة ثلجية في دورة السبات الشتوي، وهو بهذا المعنى كان يشكل الضد من الأخلاق السائدة التي هي وجه التفسخ المشروع.

والنقاء الأخلاقي ليس فكرة أو شعارا أو كتابا أو إعلانا أو صبغة أو زيا يضعه من يشاء لنفسه ويخلعه من الآخرين على هواه، فهذا النوع من( الأخلاق) كذاك النوع من( السياسة)، لا أخلاق ولا سياسة: إنه تشوه!

النقاء الأخلاقي العاري، وقلت ذلك عن رواية حيدر حيدر( وليمة لأعشاب البحر) هو الشعور الذي يصل مرتبة الشعور الديني النقي في تبديل العالم، وتغيير شكل الحياة نحو الأحسن: بتعبير الشاعر الفرنسي رامبو( الحياة الحقيقية غائبة عنا، لست من هذا العالم) فشرط الوجود في هذا العالم ليس ماديا،بل هو وجود الضمير في أنصع حالات يقظته. أما الذين يتحدثون عن( تهتك اللغة) فينسون ان الواقع وصل به التهتك الاقتصادي والديني والسياسي والحزبي والاجتماعي بحيث صار المواطن ( أو الأجير أو الرعية) يحلم أن يضرب كويكب هذه الأرض ويخلصنا من هذا العالم، فم يعد هناك البطل المنقذ ولا الخلاص السحري الغامض: هناك جموع يجب أن تنظم في نقابات، وأحزاب حقيقية وليست مراقص عمومية، وهناك جموع يجب أن تخرج إلى الشوارع وتدق هذه الأرض النائمة على هذا الخوف الاستثنائي الخطير.

ليست لغة شكري لغة تهتك بل هي لغة النقاء العاري وهو لا يستطيع على أية حال تحويل صراخ الضحايا في الغرف أو في الطرقات أو على الأرصفة حيث الموت اليومي للأحلام النظيفة، لا يستطيع تحويل هذا الصراخ إلى هتاف فرح من الضحية بجلادها.

وهذا الجلاد الماهر هو ليس شكلا واحدا( إنه يتسرطن) ليس قوة واحدة  بل حتى لم يعد سلطة بل عدة سلط وأحيانا تأخذ شكل حرفة الروائي شكري نفسه، وتعمل بأداته نفسها، وترفع الشعارات ذاتها عن عالم نظيف مسالم _ حسن الإضاءة ـ  حتى تداخلت صورة الضحية الروائي مع جلادها المتطور مع الوقت. ولذلك لا نستغرب أن يكون الذين طاردوا شكري وأوصلوه إلى مستشفى مايوركا ـ تطوان في بداية كانون الأول عام 1977 أي بعد صدور سيرته الذاتية الروائية الأولى( الخبز الحافي) هم اليوم في مقدمة حفل المشيعين والراثين وهذا بالضبط ما كان شكري يحتقره حيا وميتا، وسيتبعهم الصامتون، غيرة وحسدا، عن جريمة اغتيال محمد شكري، ذلك الصمت الذي يشبه الجريمة، ولهؤلاء أشباه في كل مكان.

وشكري أو الشحرور الأبيض( عنوان الكتاب من اختيار الكاتب ومقدم البرامج المعروف محي الدين اللاذقي!) لا ينقل حياته على الورق حرفيا ـ ليس هذا فنا ـ بل يحكي حياته كما يراها هو أو كما تمر من خلال لغة.

ليس هناك، في اللغة، أي يقين، كما يقول نيتشة وتضع جوليا كريستيفا هذه المقولة عنوانا لفصل مهم من فصول كتابها( علم النص) يقول نيتشة:( الآن فقط وبعد فوات الأوان بدا الناس يدركون الخطأ الفادح الذي أشاعوه بإيمانهم باللغة). وعلى فكرة المطابقة والاختلاف في النص الروائي والمتخيل يكتب الناقد والروائي محمد برادة وصديق شكري الحميم حتى في مصح مايوركا في مقدمة  السيرة الروائية( زمن الأخطاء) : ـ عندما تكتبها ـ حياتك ـ تأتي مغايرة لما حكيته شفويا، وما تحكيه لا يُطابق" أصلا" لأن الكلمات والإشارات وسياق الكلام تخلط المعيش بالمتخيل فلا نكاد نميز ما وقع ذات يوم عما يمكن أن يحدث الآن أو غدا.

جاء محمد شكري في زمن انهيار (الحكاية) الكبيرة عن الحياة والعالم والزمن، تلك الحكاية التي رواها لنا السياسي عبر سنوات حتى صدقناه مرات ولكنه في كل مرة يتخلى عنها ويصبح مع ذلك بطلا ونحن نموت أو نساق إلى المحارق والذل.

ماتت( السرديات) الكبرى، حكاية الايديولوجيا، وجاء زمن الحكي  الجسدي، زمن الأنا التي قيل لها أن أشواقها الفردية دنس أو مخل بالنضال وحسب تعليمات الحزب الثُوري( بضم الثاء!) فإن الأشواق الفردية والأحاسيس والعواطف الخاصة تعرقل مسيرة النضال الديمقراطي!

يا له من زمن اختلطت فيه الملهاة بالمأساة، وتداخلت صورة المهرج بصورة السياسي، فلم نعد نميز بين الأمطار الشتوية وبين دموع أطفال الأكواخ. 

ليست الايديولوجيا من يروي اليوم، بل الذات، الجسد، لذلك نشهد هذا التصدع والخوف في المؤسسة وأشباهها من هذه الحكاية الجديدة التي يرويها "حكوائي" منشق، منفصم، متمرد، أعزل، ليس له شبه ولكن في خطواته جذوره ولا أسلاف له عدا الريح بتعبير ادونيس. والانفصام هنا ليس الذهول السطحي والبحلقة الجوفاء في العالم، بل يعني عدم التطابق مع القطيع والكتلة والمؤسسة والجدار. إنه نوع من العيش المستقل  الذي من فرط جماله يشبه الحرية كعيش النسور وموتها في القمم حيث تموت وصدرها للريح والبحر والأدبية. إنه نوع من إنكار التشابه والتمثال الذي لا تقبل به المؤسسة ولا يقبل به الأشباه فيتحول، مثل كل البراءات الأخرى، إلى تهمة إضافية!.  

كلهم، كلهم،  رووا لنا الحكاية على مر العصور ، من الفقيه إلى الشيخ والقس والكاهن، والسياسي والجنرال، والمقاول، والتاجر، وحتى "القصخون" راوي الحكايات الظريف من فوق التخوت .

الآن، في هذا الزمن، اليوم، هناك من يروي الحكاية نفسها لكن على صورة أخرى. وهذا الراوي الجديد الخارج من المؤسسة والمجتمع والسلطة حيث لا يوجد شخص في العالم لا يخرج أو لا يعيش مع سلطة أو فيها انسجاما أو تراضيا أو تسوية أو تمردا، هو( الحكوائي) الجديد.

في النهاية سيرضخ الجميع مهما طالت المعركة أو تعددت وجوهها بما في ذلك القوى الموكولة( حسب شريعة فقهاء بني أمية!) بحراسة الأرض وما عليها من بشر وكائنات، لهذا الراوي الجديد، المنشق، ويمشون في جنازته برؤوس منكسة وهو في نعشه الحي الوحيد في موكب مودعيه، وسيكون هو العائد الوحيد من حفل الدفن لأن الموت الحقيقي هو موت روح الإنسان وما يبقى بعد ذلك  ليس سوى أنقاض.

في وصيته الأخيرة أوصى محمد شكري لخادمته الفقيرة فتحية براتب شهري وضعه لها في البنك، وهذا هو ما فعله الكاتب الكبير جان جينيه، صديق شكري( عند شكري كتاب ممتع اسمه: جان جينيه في طنجة) حين أوصى بإعالة طفل مرافقه المغربي وتبنيه، و فتحية اليوم وحدها في بيت مسكون بروائح وصوت وصدى وأحزان وأفراح شكري الشحيحة.

ولأن محمد شكري علمها على كل أنواع اللعب فليس مستغربا أن تفتح الباب، بعد طرق خفيف آخر الليل وهي تسأل بالعامية المغربية( شتكون؟! من تكون؟) وهو يرجوها هذه المرة بصوت خفيض على غير عادته في هذا الساعة من الزمن ويطلب منها أن تأخذ منه هذا المعطف الطويل لأنه لم يعد يحتاجه حيث الموتى ينامون عراة يا فتحية!

*17 يوم دفن الروائي/03
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات