الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارتر وصنع الله

صبحي حديدي

2003 / 11 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


سارع بعض المعلّقين العرب إلى تشبيه الروائي المصري صنع الله إبراهيم (الذي رفض جائزة الرواية العربية) بالفيلسوف الفرنسي جان ـ بول سارتر (الذي رفض جائزة نوبل). وكانت المقارنة تنطلق من تثمين الشجاعة في موقف الرجلين، وحرصهما علي صيانة استقلالية المثقف ومسؤوليته (لكي لا نقول نظافة يده وطهرانية روحه)، فضلاً عن السعي إلى فكّ ارتباطه بالمؤسسة.
ولستُ أعترض على المقارنة في جانبها هذا، الأخلاقي أو المثالي أو حتى المعياري، وليس هنا مقام الخوض في "قضية صنع الله"... ليس الآن بالتأكيد: بعد أن هدأت النفوس، والتُقطت الأنفاس، وسال حبر كثير كثير. ولكني في الواقع أعترض على هذه الخفّة العربية في تنظيف سارتر، وتبرئة ساحته من إشكالات كبرى لا تزال تكتنف شخصه وفلسفته وأعماله حتى اليوم، وتحويله إلى قدوة قياس ونموذج مقارنة، ومنحه مستوى في الإجماع لم يحظ به البتة في بلده فرنسا، لا في حياته ولا في مماته.
وفي غمرة اللهفة علي امتداح موقف صنع الله إبراهيم، وندرك جيداً أنّ المديح هنا بضاعة رائجة، أليس من الضروري أن يتذكّر المدّاحون العرب أن سارتر رفض الجائزة سنة 1964 "لأسباب ذاتية وموضوعية"، ثم قبلها بعدئذ "لأسباب مالية"؟ هل يتذكرون، أم أنهم يتناسون أو يجهلون، أنه كتب في صحيفة "الفيغارو"، بتاريخ 23/10/1964، يشرح أسباب اعتذاره عن قبول الجائزة (أنه يرفض أشكال التكريم كافة، والألقاب العلمية، والمناصب الفخرية، والجوائز المالية والمعنوية، الخ...)، ولكنه لا يشكك البتة في مصداقية جائزة نوبل ذاتها، ولا في أهلية الأكاديمية السويدية التي تمنحها؟
ولعلّ المناسبة، مثل الإنصاف وإحقاق الحقّ، تقتضي استذكار جملة من المواقف المدهشة التي تُنسب إلى سارتر، والتي كُشف عنها النقاب قبل سنوات قليلة عند صدور خمسة دفاتر جديدة من الدفاتر الـ 51 التي ضمّت مذكراته منذ عام 1939، حين أُعلنت التعبئة العامّة في فرنسا استعداداً للحرب الكونية. وفي ذلك العام كان سارتر مفكّراً شاباً في الرابعة والثلاثين من العمر، قطف لتوّه أمجاد كتابه "الغثيان"، ويعكف على أكثر من مشروع روائي وفلسفي طموح. وكان يتمتّع بكامل حرّيات الروح المنعزلة، الفردية، المتخففة من أعباء الكون، والمنسلخة بصورة تكاد تكون تامّة عن هموم السياسة.
ومع دنوّ شبح الحرب وجد سارتر نفسه في خضم طور جديد سيصفه فيما بعد، عام 1975، كما يلي: "لقد بدأ وأنا في الرابعة والثلاثين، وانتهى وأنا في الأربعين، وكان بالفعل حلقة انتقال من الصبا إلى النضج العقلي. لقد كنت أظنّ نفسي مستقلاّ سيّداً، وتوجّب أن يدلّني عام التعبئة على نفي حريتي الخاصة لكي امتلك الوعي بثقل العالم من حولي، وطبيعة صلاتي بالآخرين وصلات الآخرين بي".
خلال فترة الحرب، حيث عمل في فصيلة للأرصاد الجوية، دوّن سارتر أفكاره عن تلك "الحرب الكافكاوية"، و"الحرب الشبح"، التي لم يرفع إصبعاً واحداً ضدّها في الواقع، ولم يستطع التنبؤ بوطأتها عليه شخصياً، قبل أن تستدرجه بعنف وتقوّض أبراج التأمّل الوجودي التي استطاب حبس نفسه فيها. الدفتر السادس، على سبيل المثال، يتضمّن اعترافات مذهلة حول مواقف انتهازية تماماً في علاقة الفيلسوف بالتاريخ والسياسة: "لقد اعتمدت بعض الشيء على هذه الحرب لكي تكون تعويضاً يسهّل نجاحي الأدبي. وفي جميع الأحوال، كان الأمر هنا يتعلق بفكرة الاندماج بين قَدَر امريء عادي وقدر امريء عظيم. وفكرة القدر هذه ارتبطت بي في مستويات عميقة، وكنت أردّد: أنا على موعد مع القدر".
وعن فكرة التقدّم كتب يقول، في الدفتر ذاته: "التقدّم بدا لي حماقة على الدوام، ولهذا كنت أقلّ ميلاً إلى تغيير حالة الأشياء القائمة، وأكثر ميلاً إلى تحمّل وجودها واستيعابها. وفي العمق كنت حريصاً على عدم فقدان ذاتي". ذروة محتويات هذا الدفتر تتجلى في اعتراف صاعق، يقول: "إنني لا أسعي سوى إلي استدعاء الراهن. إنني محافظ. إنني أريد الحفاظ على العالم كما هو، ليس لأنه يبدو حسناً في ناظري ــ فالعكس هو الصحيح، لأني أراه مقيتاً ــ بل لأنني أقيم في الداخل، ولا أستطيع تدمير العالم دون تدمير ذاتي معه".
بأيّ سارتر نقارن صنع الله، إذاً؟ سارتر المتقلّب؟ الفيلسوف الذي بدأ ماركسياً، ثم انتقل إلى الوجودية، وارتدّ بعدها إلى مهاجمة الماركسية؟ الرجل الذي برهنت الأيّام أنه كان مناهضاً لفكرة التقدّم وتغيير العالم؟ أم، ببساطة وكما فعل بعض الأشاوس من المعلّقين العرب، نكتفي بأنه سارتر البطل ـ المعيار رافض جائزة نوبل... وكفى الله المؤمنين شرّ القتال؟
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يحصل على -الحصانة الجزئية- ما معنى ذلك؟ • فرانس 24


.. حزب الله: قصفنا كريات شمونة بعشرات صواريخ الكاتيوشا ردا على




.. مشاهد من كاميرا مراقبة توثق لحظة إطلاق النار على مستوطن قرب


.. ما الوجهة التي سينزح إليها السكان بعد استيلاء قوات الدعم على




.. هاريس: فخورة بكوني نائبة الرئيس بايدن