الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيكور أمي – قراءة ثانية في تجربة السياب العروضية

ثائر العذاري

2007 / 12 / 10
الادب والفن


على الرغم من مضي أكثر من ستين عاما على ابتكار قصيدة الشعر الحر، فإن هذا الشكل الشعري ما زال يثير مشكلات كثيرة فيما يتعلق بقوالبه العروضية، إذ من المعروف أن نازك الملائكة- التي حاولت صياغة النظرية العروضية للقصيدة الحرة – قسمت البحور الشعرية إلى صافية وممزوجة؛ فالصافية تلك التي تتألف من تكرار تفعيلة واحدة مثل الرجز والكامل، والممتزجة هي تلك التي تتشكل من أكثر من تفعيلة مثل الطويل والبسيط، ورأت أن القصيدة الحرة لا تكتب إلا على البحور الصافية.
غير أن المتتبع يرى أن القضية ليست بهذا التبسيط الذي تفترضه الملائكة، فهناك الكثير من الظواهر التي توحي بأن للشعر الحر عروضه الخاص الذي يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتقعيد. فكثيرا ما نجد أن قصيدة حرة تبنى على أكثر من تفعيلة واحدة، مثل ظاهرة اختلاط المتقارب بالمتدارك، بل ربما نظم شعراء القصيدة الحرة قصائدهم على بحر من تلك البحور التي سمتها نازك (الممزوجة).
يتضمن ديوان بدر شاكر السياب عددا من التجارب العروضية الجديرة بالدراسة، منها قصيدته (جيكور أمي) التي رأى أكثر دارسي الشعر الحر أنها تجربة فاشلة لأنها لم تتكرر.
كتب السياب حاشية في أسفل الصفحة الأولى من القصيدة في ديوانه قال فيها:
"إذا كان 3(فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)= 3 فاعلاتن + 3 مستفعلن + 3 فاعلاتن مثلا فإن الفرضية التي تقوم هذه القصيدة موسيقيا عليها صحيحة،أرجو أن تتاح الفرصة لتجربة هذه الفرضية على جهاز الأصوات الذي سبق للدكتور محمد منذور أن قام ببعض التجارب عليه في باريس، غير أني لم ألتزم بذلك إل في الأجزاء الأولى من القصيدة".
هذه اللغة الرياضية أو الحسابية التي قدم بها السياب قصيدته، تنطوي على أوهام يبدو أن الشاعر يحاول تسويقها لعدم ثقته باستقبال ذائقة القارئ قصيدته الجديدة، فبعد قراءتها نتبين أن الشاعر لم يلتزم تلك الفرضية إطلاقا، كما أن الجهاز المذكور هو جهاز (السبكتروغراف) الذي يقوم برسم صورة لصوت المتحدث ليست له أية علاقة بالأوزان، إذ أن فائدته الوحيدة دراسة مخارج الأصوات وبيان الفروق الفردية بين متحدث وآخر.
يستخدم السياب في (جيكور أمي) بحرين صافيين – بحسب تعبير نازك الملائكة- هما الرمل (فاعلاتن) والرجز (مستفعلن)، وبحر ممزوج واحد هو الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، أما الرمل والرجز فيمتازان بسرعة الإيقاع ووضوحه، ولذلك شاع استخدامهما في الشعر الشعبي والمغنّى، وأما الخفيف فهو بحر ذو إيقاع معقد نظرا لكبر الوحدة الإيقاعية التي يجب تكرارها والتي تتكون من التفعيلات الثلاث (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، فضلا عن أن كثرة الزحافات التي يمكن أن تدخل كلا التفعيلتين تؤدي إلى احتمالات كثيرة للتشكيل الإيقاعي لهذا البحر، مما يقربه من النثر، ولعل هذا يفسر مجيء أكثر الشعر التقليدي الذي كتب عليه مدورا، كما في هذه الأبيات للمتنبي:
درّ درُّ الضباء أيام تجريـ
ـرِ ذيولي بدار أثلة عودي

رامياتٍ بأسهمٍ ريشها الهُد
ـبُ تشق القلوب قبل الجلودِ

أهلُ ما بي من الضنى بطلٌ صيـ
ـدَ بتصفيف طرّةٍ وبجيدِ

إذ يبدو أن الشاعر يقع تحت تأثير إغراء تنوع الإيقاع فيندفع إلى إنشاء جملة طويلة تمتدّ خارج حدود الشطر الأول فتحدث ظاهرة التدوير.
تبدأ (جيكور أمي) بهذه الأسطر:
تلك أمي، وإن أجئها كسيحا
لاثماً أزهارها والماء فيها، والترابا
ونافضاً، بمقلتي، أعشاشها والغابا
تلك أطيار الغد الزرقاء والغبراء يعبرن السطوحا
أو ينشِّرن في بويب الجناحين: كزهرِ يُفتِّح الأفوافا

فالسطر الأول يشبه شطرا من الخفيف التقليدي، أما السطر الثاني فيتكون من تكرار (فاعلاتن) أربع مرات، بينما يجيء الثالث من الرجز بتكرار ثلاثي للتفعيلة (مستفعلن)، ويأتي السطر الرابع بتشكيلة خماسية من تفعيلة الرمل (فاعلاتن)، وأما السطر الخامس فجاء بشكل بيت تقليدي مدور من الخفيف. وفي الحقيقة لا نجد مقطعا واحدا من القصيدة ينجز فيه السياب وعده النظري. وهذا يحملنا على الظن أن ذلك الوعد كتب بعد كتابة القصيدة لتسويغ التنويع الإيقاعي الهائل الذي تضمنته.
وتتضمن القصيدة تكنيكات إيقاعية معقدة ومظللة، ففي الأسطر التالية:
"ها هنا، عند الضحى، كان اللقاء
وكانت الشمس على شفاهها تكسِّر الأطيافا
وتسفح الضياءْ
كيف أمشي، أجوب تلك الدروب الخضر فيها وأطرقُ
الأبوابا؟
أطلب الماء فتأتيني من الفخّار جرّه
تنضح الظلَّ البرودَ الحلوَ... قطره
بعد قطره
تمتدُّ بالجرةِ لي يدان تنشران حول رأسي الأطيابا :
(هالتي) تلك، أم (وفيقة)، أم (إقبال)،
لم تبقَ لي سوى أسماءِ
من هوىً مرَّ كرعدٍ في سمائي
دون ماءِ"
من المهمّ أن نلاحظ هنا تنبه السياب إلى تدفق الرجز والرمل الذي يجعل احتمالات طول الجملة غير متناهية، ولهذا فهما بحاجة إلى نوع من (الفرملة) لإيقاف تدفقهما، ففي السطر:
"ها هنا، عند الضحى، كان اللقاء
يلاحظ أن التفعيلة الأخيرة هي (فاعلاتان) لا (فاعلاتن)، وورود الساكنين في النهاية أدى إلى فرملة الرمل وإيقاف تدفقه.
وفي السطرين:
وكانت الشمس على شفاهها تكسِّر الأطيافا
وتسفح الضياءْ
يلاحظ أن التفعيلة الأخيرة من الرمل أصبحت (فعْلاتن=مستفعلْ) بينما تكون سطر الرجز من التفعيلتين(متفعلن فعولْ) مما يؤدي إلى القضاء على إمكانية التدفق.
وقد تنبه السياب إلى ضرورة فرملة تدفق البحور في غير قصيدة من قصائده قبل (جيكور أمي) ففي (أنشودة المطر مثلا:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
نلاحظ أن تفعيلة الرجز الأخيرة أو الضرب هي (فعلْ) وقد بحثنا في مراجع العروض فلم نجد مثيلا لهذه الصورة في الرجز، غير أن السياب أجاد استخدامها بوصفها أداة لفرملة تدفق الوزن في هذه القصيدة.
يحمل السطر الأول من القصيدة الثيمتين الرئيستين اللتين تدور حولهما؛ فالقصيدة تعالج المفارقة بين ذكريات الطفولة والصبا المليئة بالحركة وحال الشاعر وهو راقد في إحدى مستشفيات لندن وقد أصيب بالشلل، وهكذا جاء هذا التنويع الإيقاعي مناسبا لتلك الدلالات فالرجز والرمل بما يحملان من سرعة يناسبان ذكرياته، ويناسب الخفيف بتثاقله حالة الشلل التي يحيى فيها (الآن).وهكذا نجد كل العبارات التي تتحدث عن حالة العجز جاءت على الخفيف مثل:
تلك أمي، وإن أجئها كسيحا
كيف أمشي، أجوب تلك الدروب الخضر فيها وأطرقُ
الأبوابا؟
(هالتي) تلك، أم (وفيقة)، أم (إقبال)،
لم تبقَ لي سوى أسماءِ
أهي عامورة الغوية أم سادوم؟
هيهات إنها جيكورُ:
فوق ظهري حملتهُنَّ لألقيتُ بحملي فنفّضَتْ جيكورُ
.......................

بينما جاءت الذكريات الجميلة على الرجز والرمل. مثل:
أطلب الماء فتأتيني من الفخّار جرّه
تنضح الظلَّ البرودَ الحلوَ... قطره
بعد قطره
آه لو أنّ السنين الخضر عادت، يوم كنّا
لم نزل بعدُ فتيّين لقبّلتُ ثلاثاً أو رباعا
وجنتي (هالة) والشَّعر الذي نشَّر أمواجَ الظلام
................................
مع ملاحظة أن هذه أسطر متفرقة من القصيدة وليست متتالية.
وفي غير موضع من القصيدة يحاول الشاعر إخفاء شكل الخفيف التقليدي من خلال إنهاء السطر والانتقال إلى السطر التالي وسط تفعيلة جارية، مثل:
(هالتي) تلك، أم (وفيقة)، أم (إقبال)،
لم تبقَ لي سوى أسماءِ
و
أهي عامورة الغوية أم سادوم؟
هيهات إنها جيكورُ:
ففي المثال الأول تنتهي التفعيلة الأخيرة في (قة أم إقـ) أما ما تبقى من اسم (إقبال) فيجب تدويره إلى السطر التالي ليستقيم الوزن.
وفي المثال الثاني نجد الشيء نفسه إذ أن (دوم) يجب تدويرها إلى السطر التالي ليستقيم الوزن.
هذا التكنيك الأخير أوقع بعض الدارسين في الوهم، فـ(سيد البحراوي) في كتابه (الإيقاع في شعر السياب) يتوهم وجود تفعيلات خيالية كثيرة، وسبب وهمه هذا عدم تنبهه لظاهرة التدوير(أنظر الجدول في ص145)
ونحن – في النهاية – نختلف مع من رأى أن هذه التجربة فاشلة، بل لقد نجح السياب أيما نجاح في إعطاء وظيفة دلالية للوزن. بحيث صار الوزن أداة فاعلة في بناء الجو النفسي المصاحب للقصيدة.

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا


.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم




.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب