الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائرة فلتانة سي!

مصباح الغفري

2003 / 11 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


سُدّت سبل الرزق في وجوه " الدالاتية " عندما كان أسعد باشا العظم والياً على دمشق في الأربعينيات من القرن الثامن عشر أيام الدولة العثمانية ، وكما ذكر مؤلف كتاب ( حوادث دمشق اليومية ) الحاج أحمد البديري الحلاق، فان الوالي أمر منادياً أن ينادي بأن لا يبقى أحد منهم في الشام، بعد ثلاثة أيام ، ومن بقي منهم يصلب، وماله ينهب !

والدالاتــية أو الدلاة مشتقة من كلمة " دلى " التركيــة بمعنى مجنون أو متهوّر، وهم طائفة من الجند، وصفهم المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بقوله :
" و هذه الطائفة الني يقال لها الدالاتية، ينسبون أنفسهم إلى طريقة سيدنا عمر بن الخطاب ، و أكثرهم من نواحي الشام وجبال الدروز والمتاولة وتلك النواحي ، يركبون الأكاديش وعلى رؤوسهم الطراطير السود مصنوعة من جلود الغنم الصغار ، وطول الطرطور نحو ذراع ، وهؤلاء مشهورون بالشجاعة و الاقدام في الحروب ، ويوجد فيهم من هو على طريقة حميدة و منهم دون ذلك "

كانت هذه الفرقة من الجند متّصفة بالتهوّر ، يد الواحد منهم دائماً على الزناد ، الحوار معهم كالحوار مع أي حاكم عربي في هذه الأيام ، يجري وفق الأساليب الديموقراطية والأصول ، شعارهم " مَن حَرَك بَرَك ، ومن فتح فاه ، ثكله أبواه "!
* * *

أحد هؤلاء الدالاتية، وجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه، بعد أن نادى منادي الباشا بالغاء هذه الفرقة و إجلائها عن الشام وأمر جميع أفرادها بكرّ بَرماتهم ، أي التخلّي عن زِيّهم الخاص الذي عرفوا به ، والذي يميزهم عن باقي عباد الله . فكّر الرجل في مورد للرزق ، فلم يجد خيراً من افتتاح دائرة خاصة على باب مقبرة " الباب الصغير " في دمشق، لتحصيل ضريبة على كل من يدفن فيها . بنى غرفة في مدخل المقبرة ، وضع فيها منضدة، وصنع خاتماً رسمياً كتب عليه ( دائرة فلتانة سي ) وراح يتقاضى على كل ميت مبلغاً من المال يتناسب مع الوضع الاجتماعي للمرحوم وحيثياته وعدد المشيعين ، ويعطي لأهل المتوفي إيصالا ً رسمياً مختوماً باسم دائرته الفلتانة ، فالدولة كلها فلتانة ، فلماذا يبقى الأموات وحدهم خارجين عن القاعدة ؟

إستمرّ الرجل في عمله بضع سنوات والناس تدفع الضريبة التي يفرضها ، وجاءت أوبئة حصدت الألوف ، وأصبح صاحبنا من أصحاب الثروة ، له على كل ميت دينار ، سواء مات في الليل أو في النهار!
* * *

لم يكتشف الباشا هذه الدائرة الخارجة عن نطاق سلطاته، إلا عندما توفي أحد أقاربه من آل العظم ، خرج الباشا يومها في الجنازة ، و عندما دخل الموكب المقبرة أوقفه سيادة مدير دائرة فلتانة سي و طلب الدفع ، دفع الباشا متعجباً ، وعندما عاد إلى السرايا استدعى محاسب ولاية الشام فتحي أفندي الدفتردار، وسأله عن هذه الدائرة و متى أسست و من يقبض الوارادات ، وبعد التحقيق انكشفت القصة الطريفة ، ضحك أسعد باشا حتى قلب على قفاه، و طلب إحضار صاحب الدائرة في الحال ، قال له :
عفارم ... إبق في محلك ، لكن الواردات مناصفة !

* * *

أكثر من قرنين من الزمان ، ونحن نحافظ على التراث والتقاليد ، أكثر من عشرين دولة عربية أنشئت على أنقاض الامبراطورية العثمانية ، وكلها دول فلتانة سي ، عُمّمت التجربة الرائدة التي بدأها ذلك الدالاتي ، فالوطن كله من المحيط إلى الخليج، يُحكم بهذه العقلية .

سلوا أي عربي يعيش في فاس أو في أبو ظبي ، في المنامة أو في القاهرة ، في الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى أو في امارة رأس الخيمة ، و سيجيبكم أنه عاين خلال عمره القصير من عدد لا يحصى من الفلتان السياسي والاقتصادي و الثقافي . بدءاً من دوائر الأمن التي وضع أساسها رواد الديموقراطية العربية النابعة من أرضنا المعطاء، أوفقير والسراج و الكيلاني و صلاح نصر وعلي دوبا، وآخرون لا مجال لذكرهم الآن ، و انتهاء بحرب الخليج التي لا نعرف هل هدفها تحرير العراق من ديكتاتورية صدام ، أم تدمير العراق والإستيلاء على نفطه وتاريخه؟
* * *
ثمانون عاماً و جرحنا من سايكس بيكو يتقيّح و يتعفّن ، والغرغرينا تسري في أوصال الوطن ، والشعوب مُنيخةٌ رازحة تحت وطأة القمع و الفساد، تنتظر الفرج من عند الله .
أكثر من نصف قرن على اغتصاب فلسطين و تحويلها إلى وطن قومي لليهود ، وأبناء شعبنا موزعون في الخيام أو تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي ، وقرارات مجلس الأمن تستعملها إسرائيل بدل الكلينكس ، والعالم كلّه يتجاهل الجرح الناغر، و الحكام العرب يعيثون فساداً وإفساداً ، يذبحون الفلسطينيين ، و ملابسهم العسكرية منها والمدنية، مع العباءات المقصّبة، تصنع في لندن وباريس وواشنطن . النفط عَهّر القيم ، وأهل اليسار تحوّلوا إلى منظرين لأهل اليمين ، فلتت الأمور في جميع مناحي الحياة ، إختلط الحابل بالنابل . أليس ذلك هو الإرث التاريخي اللعين لدائرة فلتانة سي ؟
* * *

مشكلة الشعوب العربية أنها لم تدفع الثمن لحريتها و كرامتها ، كانت دائماً تنتظر من يحارب نيابة عنها ، كان الملوم في كل هزامنا أمام إسرائيل هو الاتحاد السوفياتي، لأنه لم يرسل جنوده لتحرير فلسطين !

أوروبا دفعت الثمن غالياً من دماء الملايين حتى وصلت إلى ما هي عليه ، ونحن اليوم ، بدأنا ولأول مرّة في تاريخنا الحديث، بدفع الثمن ، وجراح الشهداء لن تذهب هدراً ، إنها ستظل مفتوحة تنادي بالثأر و غسل العار الذي يجللنا منذ أنشئت إسرائيل على ترابنا ، وهذه الدماء ستجبر العالم " المتحضر " على أن يأخذنا بنظرة جدية .

إنه الطوفان الذي سيغسل جميع الأدران العالقة بنا منذ عصور ، وبعد الطوفان لن يبقى على الأرض من الكافرين ديارا ، فالمتشائمون الآن هم الذين لا يرون إلى أبعد من أنوفهم ، أو الذين لا يفرقون بين مصالح الوطن و مصالح جيوبهم ، أما نحن، فإننا على يقين أن المعركة الحالية ، مهما كانت نتيجتها ، هي مشرط الجراح الذي سيزيل الورم الخبيث ، هو الذي سيقلع أنظمة الفساد والقمع و الخيانة من الجذور، و إن غداً لناظره قريب

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيناتور فان هولين: فشل الإدارة الأمريكية في اتهام إسرائيل


.. شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في بيت لاهيا شما




.. الشرطة الهولندية تفرق تجمعا لطلبة جامعة أمستردام المتضامنين


.. عاجل| مجزرة جديدة.. شهداء وجرحى باستهداف إسرائيلي لمنزل من 3




.. تزامنا مع تجدد المعارك شمالا وجنوبا.. هل حققت إسرائيل أي من