الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكوين الحدسي للمكان .. قراءة في قصص دوريس ليسنج

محمد سمير عبد السلام

2007 / 12 / 13
الادب والفن


في نصوصها القصصية " الفهد جورج " الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية بترجمة عنان الشهاوي ، تكشف دوريس ليسنج عن تدرج العلاقات الثقافية بين الأنا و الآخر بين حالات الانقطاع و العزلة الحضارية المصاحبة لاندماجهما في المكان ، و هو المستعمرات و المزارع في جنوب أفريقيا ، و الاتصال الجزئي المبني على مدى تطابق الآخر مع الأخيلة المحورة لتكوينه ، و المصاحبة له عند الشخصيات الأخري ، حتى يبدو الانشطار واضحا في نص الفهد جورج بين العالمين رغم تداخلهما في التكوين الجمالي المتجدد للمكان ، إذ يختلط الذوبان اللاواعي للشخصية في ملامح المكان بحدة الانفصال العرقي و الثقافي عن مجموعات الأفارقة . لقد حمل المكان بصورته الجزئية المقاومة لأحادية الهوية دلالتين ؛ هما :
الأولى : إعادة تشكيله ، و بنائه وفقا للوعي الثقافي للشخصيات الأوربية ، و من ثم صار الفضاء ملتقى يتميز بتداخل الأخيلة ، و الثقافات ، و النوازع المتعددة ، أي صار مدلوله مؤجلا بتعدد الساكنين ، و شخصياتهم الفريدة رغم إحساس السكان الأصليين بانقطاع التواصل الحتمي مع أصحاب المزارع الجدد ، و لكن التفاعل بينهم يفكك أحادية الهوية انطلاقا من تجدد الحدس بالمكان ، حتى يصير هذا الحدس بديلا عن واقعية المكان و انعدام الفهم الأول ، و إن كانت له السيادة في المجموعة ، و لكن يبقى هذا الحدس مقاوما لهوية المكان الكلية انطلاقا من الظواهر الفريدة ، و الأخيلة ، و الذكريات المناهضة للوظيفية من جهة ، و المتحولة إبداعيا في اتجاه تجاوز علاقة المركزي بالهامشي من جهة أخرى .
الثانية : يترك المكان دائما عند شخصيات ليسنج ، فراغا ديناميكيا تتابع من خلاله وحدات السرد و وظائفه ، و متوالياته ، هذا الفراغ يحدث في بنية الشخصية انشطارا ، أو تحولا إبداعيا بين وجودها في الوعي ، و نموذجها الفعلي ، و يحطم التجانس البنائي بين أصحاب الهويات المتقاربة بحيث يبدو الاختلاف سمة أساسية للتفاعل الحضاري في السرد ، فالانشطار هنا قد تولد من سردية الفراغ البديل عن المكان ، و ليس عن ملكية المكان و مستخدميه المعروفة سلفا .
التواصل الخفي الحدسي بين الأنا و الآخر عند ليسنج يبدأ و ينتهي من حالة انفصال أولية لكنها تنفك دائما في تحول الشخصيات ، و الأماكن ذات الخصوصية خارج انتماءاتها الثقافية ، و في تجددها باتجاه فضاء أقرب لمواد اللاوعي الخصبة ، و المتجاوزة لسياق مركزية التكوين و حدوده .
ترى الساردة شخصيتي الرجل الأسود الطويل ، و زوجته الحولاء من منظور العاكس في نص " الإزعاج " ، و من ثم تذوب الشخصية في الفعل الوحشي في التعامل مع الحيوانات عند الرجل ، و غرائبية زوجته التي تكثر الشكوى ، و موتها الملتبس . لقد غاب الشخص انطلاقا من صيرورة فقدان الهوية المتعالية الممنوحة للمركز ، مما جعله ينتقل من الموقع الهامشي إلى التحول ، و التداخل مع الآخر ، إن انعدام فهم الرجل و زوجته من قبل الأب / صاحب المزرعة تحول إلى تساؤل معرفي لا يملك الهيمنة ، أو التنبؤ بسلوك هذا الآخر الذي صار عقب حدث موت الزوجة ظاهرة فريدة في تركيبها الكوني .
الرجل الأسود الطويل نعرفه من خلال وظيفته و وحشيته الغرائزية مع الحيوان لكنه صار إشارة أدائية متناقضة تتجسد فيها مشاعر التدمير بالوظيفة ، و هي الأكثر سيادة هنا ، و قد بدا هذا واضحا بعد شك الأب في أحاديثه عن الزوجة و كان قد أخبره بأنها عادت لبلدتها ، و عندما وجدت جثتها في البئر أجابه باحتمال انزلاقها ، مما جعل الأب يصفه بالطيب الملعون في وقت واحد ، و يؤكد التساؤل دون يقين حول الحدث .
هكذا انتقل الرجل غير المسمى من غياب الحضور الذاتي ، إلى حضور لغياب معناه ، و أفعاله المضادة للانسحاق الأول .
أما الزوجة الحولاء المتمردة فقد حيت حياة لا واعية جديدة عندما اندمجت بصورتين ؛ الأولي صورة الماء المجدد للحياة ، و بهذا الصدد يذهب كارل يونج إلى رمزية تجدد الولادة في ظلمة الماء و قداسته ، و من ثم البحث عن الخلود في النفس اللاواعية الممتدة زمكانيا ( راجع – يونج – رمزية التحول – ترجمة نهاد خياطة ) .
فالمرأة الأخرى المقاومة للزوجة الشاكية تستعيد أحلام التجدد ، و الانبعاث الإبداعي خارج حالة الكراهية ، و النكد ، و إن كانت رائحتها الكريهة في النص تؤكد التمرد على الصورة الأولى المهمشة لها ، و تعيد بعثها من خلال اندماج كوني بالماء . هذا الاندماج تضعه ليسنج في مواجهة ازدراء الأب لاحتمال أن تملك المرأة مشاعر رقيقة تدفعها للانتحار مثل الإنسان المتحضر . هكذا تعود صورة المرأة الانفصالية الأولى عن المركز مسببة إزعاجا له ، لا من خلال الرائحة الكريهة الوضيعة ، و لكن لأن هذه الرائحة باتت مهددة ، و مخترقة في حالة التحول الأخرى ، و الصورة الثانية هي لزوجها ، حين أصبح ملتبسا ، في المشهد فقد اندمجت بحيوانيته التدميرية التي غيبت وظيفته رغم كراهيته الأولى لها .
و في نص " منزل العجوز جون " يشكل الفراغ حدسا قويا بالمكان ، فلا وجود للعجوز جون في القصة إلا من خلال ما تركه من فراغ يسمح بالتجدد ، و تحول مشاعر كيت إزاء من يأتون من الأوربيين للمنزل ، فعقب تمرد مدام سنكلير على وضعها في المنزل تأتي أسرة مدام لاسي بعالم آخر ، و أحلام تستبدل فراغ العجوز ، و آل سنكلير ، و كأنها تبدع المكان في سياق خيالي آخر يندمج بالولادة الجديدة لكيت ، و لاسي معا رغم اختلافهما العرقي ، و الثقافي . لقد تقاطع حلم لاسي بالخصوصية الإبداعية الممثلة في بكارة الشعور بالملكية ، و ولوج كيت لسياق آل لاسي السحري ، و توحدها مع الطفل الصغير ، كأنما يمثل صيرورتها الأخرى ، فقد كانت سعادة كيت في هذا العالم الحلمي الموازي لحلم لاسي تشبه عالمي السينما ، و المدرسة ؛ إذ يبتعدان كثيرا عن حياتها الواقعية ، فضلا عن تحذير والديها من الاختلاط بمسز لاسي . تتولد إذا لحظتان من فراغ العجوز جون ؛ أولاهما تجدد الأخيلة ، و الأحلام و الحياة الخاصة البعيدة عن الانفصال الثقافي ، و الأخرى تمثل استعادة فراغ المنزل المستمر في هذه الحدود الثقافية التي بقيت بين كيت ، و آل لاسي ليلتبس فيها مدلول الخصوصية بعزلة ثقافية غير سائدة .
و في نص " آل دي ويت يصلون إلى مزرعة كلوف جرانج " تصطدم الأخيلة المشكلة للآخر من خلال وعي الأنا بعبث الانفصال عن الآخر ، و من ثم إمكانية وجوده خارج مركزية الشخصية المدركة . و قد يؤدي بنا هذا الانفصال إلى محاولة تأويل الآخر من خلال درجة تفاعلية تغلب عليها الحوارية خارج مركزية المدرك ، هكذا نستطيع توليد آل دي ويت من خلال العوالم السحرية التي دخلها أبطال القصتين السابقتين من المجموعة ليتمردوا على مركزية الرؤية لترتفع درجة حضور الآخر ، و السخرية من أي إمكانية تأويل أحادية سابقة له ؛ فمسز ويت لم تكن مهتمة بالحدائق مثل جيل ؛ لأن أمها كانت مشغولة بالإنجاب ، كما أنها كثيرا ما كانت تشكو من الوحدة ، و الهدوء و ابتعاد زوجها في مقابل جيل الأكثر ميلا للسرية ، ووضع المسافات حتى مع زوجها ، و قد بلغت سخرية الساردة ذروتها من أخيلة مسز جيل عندما ضرب ويت زوجته بسبب اختبائها تحت السرير لتدفعه إلى الاهتمام بها فقالت جيل لزوجها أمامهما : " و ماذا إذا فقد أعصابه مرة ثانية و قرر أن يقتلها ؟ " بينما يأمرها ويت بالخروج بسبب ما فعلت من تخريب .
و رغم العودة إلى العالم الانعزالي في نهاية القصة ، فقد تركت إمكانية أخرى في سياق بعث الوجود الجديد للشخصية لإيجاد خيالات جديدة تتجاوز العبث الانفصالي عن الآخر ، و عاداته النفسية ، و الحضارية .
إن دوريس ليسنج في هذه المجموعة لا تؤكد حضور الاندماج بالحياة اللاواعية ، أو صورة الآخر خارج نطاقه الحضاري ، و العرقي لكنها تقيم من خلال وسائط السرد علاقات تتجاوز هذه الحالة تاريخيا ، و سيريا ، و إبداعيا ، و كأنها تضع نبوءة الخروج في وحدات النص لا خطابه .
و تبلغ درجة الاتحاد الخفي ذروتها في نص " الفهد جورج " فملامح المزرعة التي اختارها جورج صائد الفهود التي تدعى مزرعة الرياح الأربع هي مزرعة حلمية في تكوينها الواقعي الخشن ، فهي تؤول العالم الداخلي لجورج ، و تكاد تتطابق مع حياته اللاواعية المليئة بمغامرات الصيد الصعبة ، فهي تتكون بأكملها من نتوءات صخرية ، و أشجار قصيرة ، و حشائش باهتة .
لقد امتزج المكان بوعي و لا وعي جورج و كأنه يؤدي دور الفهد الذي يصطاده بفرح خارج المركزية المتعالية . إن جورج يحلم بانتشار الحيوان و قوته ، و مطارداته ، فقد غضب ذات مرة لأنه اصطاد فهدا لم يقاومه ؛ غضب لأن الاصطياد كان فارغا ، و لأن الحيوان كان ضعيفا في مواجهته مثلما كان هو عندما تخلى عنه العجوز المستخدم سموك بسبب ممارسته الحب مع الزوجة الصغيرة له رغم عدم علمه بذلك ، إنها لحظة التوقف عن القوة التي أراد جورج أن يتجاوزها باتحاده مع الأحلام الأفريقية ، و قوة الفهود ليتجاوز ذلك الفراغ الذي تؤكده ليسنج من خلال تعارض العادات الحضارية المخترقة دائما في نموذج جورج الحلمي ، و أمثاله في المجموعة .
و مثلما تحاول شخصيات الفهد جورج تحقيق التمرد ، و خلق حالة تجدد من خلال الانفصال المتوتر أدبيا ، فإنها تحاول تجاوز الصراع الأسطوري و التاريخي بين الذكورة و الأنوثة في مفكرتها الذهبية فعقب مشاعر الحسد و الغيرة بين سول و آنا نجد المفكرة الذهبية قدمت درجة من الأدائية المشتركة بحيث لا يمكن التمييز بين ما كتبته آنا و سول و الآخرون ( راجع – ليسنج – مقدمة المفكرة الذهبية – ترجمة أحمد عمر شاهين – ضمن الرواية اليوم عن هيئة الكتاب بمصر 1996 ) .
لقد تجاوزت الذات الأنثوية نفسها من خلال المفكرة ، و حاولت القضاء على مشاعر التمييز دون أن تضع الآخر في مسافة بعيدة ، أو تحاول استبداله ، رغم أن المفكرة الذهبية مازالت في طور الإعداد و لم تتحول في السياق التاريخي و الاجتماعي لكنها تدفع لتجاوز الصراع المتكرر في هذا التاريخ بوصفها جزءا حيا و فاعلا منه و يتداخل معه .
و تعترض ليسنج في نطاق تأويل النصوص الروائية على ثبات المشروع الإبداعي و وضوح خطته . تقول في المصدر السابق :
" الكتاب كائن حي ، و قوي ، و مثمر ، و قادر على أن يثير الجدل و يرقي الفكر ، و ذلك فقط حين يكون شكله و قصده و خطته ليست واضحة تماما ؛ ففي اللحظة التي يتضح فيها الشكل و القصد و الخطة فلا يوجد بعد ذلك ما يمكن أن يستخلص منه " .
التحول سمة إذا من سمات النص الإبداعي ، حيث تكون الخطة فيه مفتتحا لإعادة الإنشاء و التلقي و لتعددية في تحديد ما هو هذا المشروع خارج الهوية الأولى المزعومة ، و أتفق مع ليسنج في هذا ، إذ يحمل النص بذورا كثيرة تصلح كل منها لإعادة الإنشاء في دراسة أو قراءة مختلفة جديدة .
و هكذا جاءت مجموعتها الفهد جورج حاملة لبذور ظاهراتية ، و علاماتية تصلح لإعادة الإنشاء من خلال انتشار الشخصيات ذات الأداء الثقافي أو اللا واعي الملتبس دائما بمدلول انفصالي لا يحقق له النص حالة الاكتمال .

محمد سمير عبد السلام – مصر
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث