الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخالة أم بشير - قصة قصيرة

غريب عسقلاني

2007 / 12 / 15
الادب والفن



كنت فتى يوم سألتها:
- مين اللي قالت "يا ريتهم قسّموا".*
- أم محمد العمشة قالتها، يوم رمت طيارات الكفرة بلاويها على المجدل ، وضيعت الناس.. يا ريتهم قسموا، كان بقينا في بلادنا.
- لو قسموا كان رحل ناس غيرنا من بلادها.
- نص العمى ولا العمى كله.. اللي بيرحل يسكن عند جاره أو أخوه.. ويفرجها ربك وبيرجع .
وضربت أم بشير صدرها اللحيم، الذي نذرته في شبابها للأطفال الذين لا يشبعون من صدور أمهاتهم، حتى المرضعات الوافرات كن يذهبن بأطفالهن إليها لما كان يشاع عن حليبها الطيب ، وتقول العجائز "أنها تغفو على أنغام شبابة زوجها اللويح، الدبيك، فيُشبعها ويصفو حليبها من كل غم أو عكر ويحتفظ بسره.."
وفي أيام الحصيدة، تتفرغ لأطفال الحصادات، وتمنحهم أخوة في الرضاعة، تظهر نذرها عندما يشبون رجالاً وصبايا ويلهث كل قلب خلف وليفه، فيصدهما عن الغواية صدر أم بشير الذي توسداه سوياً وارتويا منه وأصبحا أخوة في عشيرتها، فإذا سمعت عن خاطب منهم نسي أهله أو تناسوا التواريخ، تعترض الجاهة عند باب العروس وتتنمر:
- كيف يتزوج ابني من أخته في الرضاعة؟!
ينفض الأمر عند شهادتها، وتتوزع القسمة من جديد وتصبح وليفة الأمس أخت اليوم، لها حقوق الأخت العزيزة، تنتظر علم الأيام، وتحلم بزواج ابنتها المنتظرة من ابن أخيها القادم..
والخالة أم بشير وزعت من بطنها البستان خمسة أولاد وخمس بنات، كبروا وتفرعوا وأصبحوا حمولة، حطت رحالها في مخيم الشاطئ، وعاف أبو بشير الشبابة وقاطع حلقات السامر وملاعب الدبكة، وإذا ما عاتبه صديق يوم فرحة زواج أو زفة طهور يعتذر:
- الفرحة الحقيقية بتقول للدبيك تعال.. وين هي الفرحة؟
يترك حلقات الأفراح ويمضي إلى شاطئ البحر، يحاور صدر الماء في عتمة الليل.. وظل على سهومه حتى شيعه المخيم إلى مثواه الأخير، ولم تردد خلف نعشه ردادة ولا ناحت نوّاحة ، فقد وقفت أم بشير في وجه النساء، ولوحت لهن بشبابته:
- اللي خلف ما مات .
واحتضنت حفيدها الصغير سهمود، وأعطته الشبابة، همست في أذنه تغالب دمعتها:
- أنفخ فيها علشان جدك يبقى في الدار.
ومضت الأيام وتفرقت حمولة أم بشير، وكبرنا ويوم دعوتها لحفل لزفافي قالت وقد اهتز صدرها:
- بنت من عروستك يا ولد؟
أخبرتها عن أم العروس وأبيها، تنهدت ارتياحاً:
- العروسة من مواليد الهجرة لم ترضع صدري .
- وأنا يا خالة؟
- هاجرنا وعمرك سنة، شبعت مني ،كنت رفيع مثل الخيط، وبعد ما تعودت على صدري صار فيك لحم وأصبحت بني آدم, وذكرت من رصعوا معي من صدرها.
ومرت الأيام وأدركتها الانتفاضة، وحافظت على جلستها عند عتبة الدار، تنتظر حفيدها الذي يطارد الجنود في الأزقة، قلت:
- يا ريتهم قسموا يا خالة..
- اللي فات مات، الله يرحمك يا أم محمد العمشة، تعال يا ولد قرب مني.
توسدت صدرها قالت :
- الولد الشقي ترك شبابة جده وراح يطارد العسكر..
- بكرة بيرجع للشبابة يا خالة .
وتكومت عليّ، فقد قذف الجنود عبوة مسيل للدموع في الزقاق.. لم تهطل دموعي، كنت مغموراً برحيق صدرها.

* يا ريتهم قسموا,جملة رددها أهالي مدينة المجدل عسقلان, إشارة لقرار التقسيم الذي رفضه العرب قبل النكبة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف