الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زهدي والمتنبي والتحولات ( 2 )

عدنان الظاهر

2007 / 12 / 14
سيرة ذاتية


قرر زهدي الداوودي ، بطل التحولات جميعاً ، أن نجتمع لديه في بيته فلقد عزم أن يضيف َ ـ كما إدّعى ـ لوناً حياتياً جديداً ونكهة خاصة أخرى لأنماط إجتماعاتنا السالفة ... منها على سبيل المثال : مدينة جديدة تُسمى
( لايبزك ) ما سبق للمتنبي أن رآها في المنصرم من زمانه ... ثم البيت الكبير الذي تحيط به حديقة غناء عامرة هو وهي من بعض بقايا ومخلفات عهود الإشتراكية ... ثم ، وجود الصديق المشترك الدكتور ممتاز كامل كريدي خبير الأدب واللغة الألمانية . ما رأيك يا متنبي ، هل ترفض كل هذه العروض السخية ؟ معاذَ الله ! أجاب أبو الطيّب ، يكفيني لكي لا أعتذر أن ْ يكون بيننا صديقكما المشترك ممتاز كريدي الحلي ِّ ثم العزاوي . ماذا أريد أكثر من ذلك من دنياي ؟ ثم شرع يُنشد :
أبوكمْ آدم ٌ سن َّ المعاصي
وعلّمكمْ مغادرة َ الجنان ِ

لا فُض َّ فوكَ أبا الطيب ، دار زهدي هي الجنة بعينها وهو نفسه ساقيها وبعض حورها والكثير من ولدانها المخلدين ثم راعي بساتينها وكرومها ونخيلها وأعنابها و [ بيشمه ركة ] أنهار لبنها وعسلها وخمورها وقائد ربيئة جبالها الشاهقة التي تضاهي سلاسل جبال وادي ( كفران ) علوّاً وشموخاً . كان المتنبي يصغي لي ذاهلاً كالمسحور ثملاً بما يسمع وما يشم من عطور الجنة ومسك وبخور عين حورها وطيب غلمانها الذين يطيفون على الجلاس بكؤوس الويسكي الأسكتلندي والشامبانيا والبراندي والروم الكوبي ماركة كاسترو والسيجار الذي يحمل صورة جيفارا ... بحلل وبدلات ( سموكن ) من السندس والإستبرق مطوقين أعناقهم بقلائد الذهب الأبيض والعقيق والياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟! ماذا تريد أكثر من هذا يا متنبي ؟ قال أريد أن أرى مدينة ( لايبزك ) بعد أن تخلت عنها إشتراكية الرفيق زهدي . هل أضحك ؟ لا ، الموقف على درجة عالية من الجدية ، لا مكانَ فيه للضحك . هل أبكي ؟ لا ، لا من جدوى في الدموع . تذكرتُ شعر المتنبي :

صحبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا
وعناهم ْ من أمرهِ ما عنانا

بين مغالبة الدمع وقمع الضحكة البطرانة سألتُ الشاعر الكوفي : هل في رأسك أسئلة محددة ومواضيع تود طرحها على صاحب ضيافتنا لهذا اليوم ؟ موضوع واحد ، قال ، موضوع واحد . ما هو ؟ موضوع التحولات ... تحولات زهدي الداوودي . أود معرفة طبيعتها وكيف جرت التحولات هذه في رأس وحياة الرجل الأديب المؤرخ والأستاذ الجامعي السابق .
وصلنا بيت زهدي وكان الجو ربيعاً فجلسنا في حديقة داره . جاءت بعد قليل زوج زهدي السيدة أم أميرة فرحبت بنا وبالغت في الترحيب بالضيف الجديد أبي الطيب المتنبي وفاجأته بقولها إنها رأته شتاء عام 1979 في العاصمة الليبية طرابس وكانت وزهدي في طريقهما إلى ألمانيا . قال أجل ، كنتُ هناك ولكن في زمان ٍ آخر ... ربما إختلط الأمر سيدتي عليكِ ، الشعراء كثيرون والمشردون العراقيون لا حصر َ ولا عد َّ لهم . إعتذرت السيدة وإنسحبت بعد أن أشرفت وألقت آخر نظرة على طاولة الطعام الكبيرة التي توسطت حديقة الدار . أين ممتازكريدي ، تساءلتُ ؟ إنه لا يستطيع مغادرة داره ، أجاب زهدي . لماذا يا زهدي ؟ لقد أُجريت له عملية جراحية معقدة فهو يمر الآن في فترة نقاهة تتطلب الكثير من الراحة والمكوث في الفراش . أفلا من سبيل لزيارته في بيته ؟ بلى ، سنزوره ذات يوم . كان أسفي عميقاً أني أتخيل الصديق ممتاز جالساً معنا بيننا لكني لا أراه ولا أسمعه .
من يبدأ الكلام ، سألتُ ؟ قال زهدي إنما أنتَ البادئ ... لا تقوم الزوابع والمصائب إلا من أرض بابلَ يا بابلي أصيل !! لم يستوعب المتنبي سر هذا الكلام لكن تضاحك إذ ْ رآني أضحك عالياً . نعم ، المصائب والكوارث كلها في أرض بابل وعلى أرض بابل منذ حمورابي ونبوخذ نصّر حتى اليوم . قدم زهدي سيجارة أمريكية لضيفه المتنبي ثم أوقدها له مبالغاً في خدمته وطريقة تقريب الشعلة من طرف سيجارته ثم الكيفية التمثيلية الفنية التي أطفأ فيها عود الثقاب طارداً الدخان عن وجه المتنبي .
يا أبا أميرة ... رفع زهدي رأسه إلى أعلى قليلاً ولم يعلّق ... يا زهدي ،
فهمنا كيف تحوّلت حبيبتك مادلين الممرضة في مستشفى كركوك في عام 1955 ، عام وفاة أبيك ... فغدت بعد خمسة أعوام لا غير مادلين َ المعلمة في قضاء طوز خورماتو ... تحولت حسب مبدأي التحول والتناسخ ولكنْ ، كيف تفسر ضياع ثورة تموز 1958 وتحولها إلى إنقلاب فاشي دموي في الثامن من شهر شباط 1963 ... هل كان ذلك إستنساخاً أم مجرد تحوّل (( دايالكتيكي )) شبيه بتحول مادلين الممرضة إلى مادلين المعلمة ؟ شعر زهدي بالحرج فرفع كأسه قائلاً : نخب مادلين الأولى ومادلين الثانية !! ظل المتنبي مطرقاً لا يود المشاركة في أمور فلسفية ليس فيها ما يغري الشعراء من أمثاله . إكتشفتُ أني أردد في سري قول الشاعر أبي نؤاس :

فتدحرجت ُ من تحت ٍ إلى فوق ...
هكذا كان حالنا وقد وقع الإنقلاب الفاشي على رؤوسنا وقوع الفأس أو الطبر ... تطايرنا وتدحرجنا متخذين وضعاً مقلوباً خلافاً لكل قوانين الطبيعة ، بل ربما شرع البعض منا يمشي على رأسه لا على قدميه .
كان زهدي والحقَ أقولُ ، بارعاً في ملاحقة أيام ثورة تموز 1958 ورسم صور أحداثها وتقلباتها بدقة وجرأة متناهيتين . كان جريئاً فيما وجه من إنتقادات لقادة تنظيمه من رفاقه الأقدم منه في سلم التنظيم . ولقد ركّز بشكل خاص على ظاهرة ( الستالينية ) التي كانت متفشية ـ حسب تفصيلات رواية التحول ـ في صفوف بعض تنظيمات وخطوط الحزب الشيوعي العراقي . إنتقد الظاهرة هذه وتصدى لمن تبناها بالنقد والسخرية اللاذعة بل وحتى بالكلام البذيء ! ثم وقف عملاقاً في وجه كل التجاوزات اللاقانونية واللاأخلاقية التي مارسها بعض الشيوعيين في كركوك أوائل أيام وشهور الثورة وفي بعض أقضيتها ونواحيها وقراها . فضلاً عن التناقضات الصارخة المفرطة في الخطورة في طبيعة ثورة تموز والخطأ القاتل في تشخيص طبيعتها الطبقية وباقي تفصيلاتها وكان زهدي أكثر من بارع في تشخصياته ووضع اليد على مكامن الجروح . أورد أمثلة على ما أقول :
[[ إلتفتَ الرجلُ إلى صورة قاسم التي وُضعت في الإطار الذي كان يضم صورة الملك فيصل وقال مبتسماً : حسناً فعلتم ، وأما من أين لي هذا التفاؤل فله أساسه ، جهاز الأمن يبقى كما هو ويؤدي واجباته كما كان يؤديها من قبلُ / الصفحة 138 ]] . قائد ثورة تموز يشترك مع فيصل رمز الإستعمار البريطاني وحلف بغداد في إطار واحد !! وتبقى أجهزة أمن النظام الملكي كما هي وكما كانت عليه لتؤدي مهمات مشابهة تماماً ولكن في العهد الجمهوري (( الثوري )) !!. ثم :
[[ سكتنا برهة ً ، واصل كلامه قائلاً : هكذا علمنا معلمنا أبو الشعوب . قلتُ بسذاجتي المعهودة : مَن هو أبو الشعوب ؟ قال بسخرية : ماذا علمك عباس نامق إذا ً ؟ إنه ستالين العظيم . قلتُ وقد إلتبستْ عليَّ الأمورُ : إنه كان يحدثنا عن ماركس ولينين . هزَّ رأسه كما لو أنه عالم بكل الأمور : من دون ستالين لا يمكن فهم هذين العملاقين ... / الصفحة 146 ]] .
هنا أعترض على هذه المحاورة إذ لا أراها صحيحة المحتوى والتفصيلات . كان الحزب منذ بدايات ثورة تموز يحذر رفاقه من ستالين والستالينية وهو خط تثقيفي ساد منذ إنعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956 حيث تمت تعرية ستالين وإزاحة جثمانه المحنط من الضريح الرخامي الأحمر المهيب في الساحة الحمراء من موسكو الذي كان يضطجع فيه سويةً مع لنين جنباً لجنب. على كل حال ، يدل هذا الحوار على عمق الهوة والتخبط في المفاهيم وفقر التثقيف وضحالة حال بعض الرفاق المكلفين بمهمات التثقيف الحزبي في بعض تنظيمات الحزب .
نواصل القراءة :
[[ ومنذ اليوم الأول الذي قيل له إنه الرفيق المسؤول والكادر الريفي الأول ، دبر لنفسه ثلاثة أشياء : عباءة بحواش ٍ ذهبية ، بندقية هولندية ، مستغنياً عن بندقيته الإنجليزية القديمة التي قال عنها إنها رمز الإستعمار ، وحصان . وفي وقت متأخر ، حين بدأت الإنتكاسة ومطاردة الشيوعيين ، قيل إنه إستولى على هذه الأشياء الثلاثة من غير وجه حق من بعض الأغوات الذين إستولى الإصلاح الزراعي على أراضيهم . / الصفحة 158 ]] .
لا يحتاج هذا الكلام إلى تعليق ـ إنه ناطق بليغ فيما يقول . كادر شيوعي مسؤول يجرد الناس مما يمتلكون بدون وجه حق أو مستند قانوني . تجاوزات أدت فيما بعد إلى إنقلاب السحر على ساحره فالظلم هو الظلم لو دام دمّر كما يقول القدماء .
ثم :
[[ لك خمس دقائق فقط ، تتحدث فيها عن أهم مزايا الثورة ، ثم تقدمني كمناضل وقائد فلاحي . وحين أحس َّ ببعض الإرتباك على وجهي أضاف مشجعا ً : لا داعي للإرتباك ، إحسبهم خرافا ً / الصفحة 162 ]] .
هل هذا هو الموقف الثوري الجماهيري السليم من الفلاحين الفقراء والمعدمين من كادحي أرياف العراق ؟؟!! لقد كشف زهدي بعض وجوه المأساة وضحالة بعض رفاق الحزب الشيوعي وتعاليهم على مَن يدّعون تمثيلهم والدفاع عن حقوقهم والتعهد بإقامة دولة العمال والفلاحين على أرض الرافدين .
ثم :
[[ والآن سيتحدث إليكم واحد ٌ منكم ، مناضل ٌ وقائد فلاحي ناضل في العهد البائد من أجل حقوقكم وكرامتكم : المناضل والقائد الفلاحي المعروف ملا صالح الحاج مهدي . { الملا يخطب }: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... إنَّ ثورتنا هي ثورة إشتراكية ، وسوف نبني الإشتراكية بسواعدكم . كل واحد منكم سيحصل على قطعة أرض وبيت مبني بالجص والحجر وتراكتور وسيارة ... / الصفحة 162 ]] .
قد يكون ما كال الملا صالح لفقراء الفلاحين في خطبته من وعود طوباوية صحيحاً ولكن الأمر الطريف جداً هو موقف رفيق الملا صالح الأعلى تنظيمياً منه . فلنتعرف عليه .
[[ عندما سألني الميزان الأعوج ـ رفيق حزبي متقدم ـ عن مزاج الفلاحين ومدى تجاوبهم مع الثورة ، قلت ُ طالما أنهم يصدقون وعودنا الكاذبة فإن َّ مزاجهم ثوري . قال بلهجة إستنكار واضحة : ماذا تقصد بالوعود الكاذبة ؟ قلت ُ بإستخفاف : حسب نظرية ملا صالح سيستلم كل فلاح قريباً قطعة أرض وتراكتور وسيارة ... علماً أنَّ الفلاحين في القرى الخمس التي زرناها هم أصحاب الأرض ولا يوجد عندهم أي إقطاعي . إنطبعت على وجهه إبتسامة غير متوقعة : إذا ً نعطيهم التراكتورات والسيارات فقط . قلتُ بإحتجاج : ومن أين نجلب كل هذه السيارات والتراكتورات ؟ أجاب بهدوء متناه ٍ : سنجلبها من ( كس ) زوجة ملا صالح / الصفحة 166]] .
هذا هو زهدي الناقد الواعي الساخر المقدام الذي يخترق بحسه الحُجُب ويقرأ ما في الصدور وما في الرؤوس لكأنه أشعة ليزر خارقة النفاذ . إنه لا يقرأ الغيب ولا يملك عيني زرقاء اليمامة لكنه أساساً مثقف كبير وعالم وأستاذ تأريخ يمتلك ناصية اللغة العربية وإنه أحد أسياد فن السرد الروائي.
ما رأيك يا متنبي فيما سمعتَ ؟ قال إنه يسمعه لأول مرة . ما كان ، قال ، في زماننا حزب شيوعي وتنظيمات وتقسيمات طبقية فلاحية وعمالية ورأسمالية ... كنا أمة واحدة عربية إسلامية فيها فقراء وفيها أغنياء وفيها بين بين وهذه مشيئة رب العالمين (( وفضّلنا بعضكم على بعض )) .
هل نتكلم اليوم عن زهدي وإنقلاب الثامن من شهر شباط عام 1963 أم نُرجئ الكلام عنه ليوم غد ؟ نهض زهدي ليودعنا قائلاً : هذا موضوع ثقيل مؤلم لا تتحمل سماعه أعصاب الشاعر أبي الطيب المتنبي ! طيّب ، قلتُ ، سننظر في إمكانية مناقشة أمور طريفة أخرى مما ورد في رواية " تحولات " .

[[ رواية تحولات للدكتور زهدي خورشيد الداوودي / الطبعة الأولى 2007 / الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ]] .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة