الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرهود من سيعوضني عن النفائس التي فقدتها؟

عوني الداوودي

2003 / 11 / 21
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


   ما من عائلة كوردية في الريف الكوردي ، لا سيما القرى الكثيفة المحيطة بمدينة كركوك من الجهات الأربع، إلا وأن نالت نصيبها مرة أو مرتين أو أكثر من ما متعارف عليه في العراق " بالفرهود " منذ الإنقلاب البعثي القومي الأول عام 1963 إلى عام 1991، بعد الهجمة الشرسة التي شنتها قوات الحرس الجمهوري بعدما أستطاعت أن تخمد إنتفاضة الشعب العراقي في آذار من العام نفسه بقسوة ووحشية متناهية راح ضحيتها ما يقارب الثلاثمائة ألف إنسان عراقي من زاخو إلى البصرة، والتي نتج عنها أيضاً الهجرة المليونية للشعب الكوردي في هجرة جماعية لم يسجل التاريخ الحديث لنا شبيها بمثلها، هائمين على وجوههم في عز الشتاء صوب الحدود التركية والإيرانية في ظروف صعبة للغاية نقلتها شاشات التلفاز إلى كل بيت في أرجاء المعمورة ، تصور المأساة الأنسانية التي تعرض لها هؤلاء الهاربين من جحيم صدام مفضلين الموت جوعاً وبرداً على أن يقعوا بأيدي هؤلاء الوحوش الهمج، كانوا يتساقطون واحدأ تلو الآخر، لا سيما الشيوخ والعجائز والأطفال والمرضى، ليدفنوا في حفر بسيطة قريبة من سطح الأرض على عجل لعدم توفر أدوات الحفر والخوف من السمتيات العراقية التي تلاحقهم ، وتبين لاحقاً بعد عودة أهالي وذوي هؤلاء الشهداء لنقل رفاتهم، بأن الحيوانات البرية عبثت بها وأكلت الكثير من أجزاءها. 
 كنت كما كان الألاف من أبناء شعبي نشاهد تلك المأساة الإنسانية الكبرى من خلال شاشات التلفزيون في الدول الأوربية، والدموع سيالة، لا حول لنا ولا قوة، غير الخروج في مضاهرات كبيرة وسلمية تجتاح مدن وشوارع الدول التي نقطنها، نطالب الحكومات والرأي العام بمد يد العون، وتقديم المساعدات العاجلة لهم وحمايتهم من الموت المؤكد . والبقية معروفة للجميع ...  لا أريد الآطالة ولا أستذكار تلك الايام العصيبة التي مررنا بها ونحن نشاهد أهلنا وذوينا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بين الجبال والوديان ينتظرون الرحمة من السماء التي تخلت عنهم أيضاً بدورها، حيث كانت الأمطار تهطل بغزارة ودرجات الحرارة تصل أحياناً إلى ما تحت الصفر .
وبمجرد تحديد المنطقة الآمنة التي فرضتها قوات التحالف لحماية شعب كوردستان، حملت حقيبتي متجهاً إلى كوردستان عن طريق سوريا، لأطمئن على والدتي وأختي حيث أنقطعت أخبارهم عني، بعد الهجوم الشوفيني لعصابات صدام الغازية على المنطقة، كانت كركوك خارج المنطقة الآمنة أرضاءٍ للحكومة التركية العدو اللدود لتطلعات الشعب الكوردي . وأنا في الطريق إلى هناك كنت اسأل من يصادفني عن مصير أهالي كركوك، ذلك بأن جل أهل السليمانية وأربيل ودهوك استطاعوا العودة إلى مدنهم  وبيوتهم تحت حماية قوات التحالف، إلا أهالي كركوك المنكوبين في كل العصور والمراحل والذين من ضمنهم والدتي وأختي وأطفالها التسعة ناهيك عن الأقارب والاصدقاء، فكرت في الذهاب إلى السليمانية أولاً، لكن آخرين نصحوني بالتوجه إلى مدينة رانية حيث تم تشييد مجمعين كبيرين إلى الذين لم يستطيعوا العودة إلى كركوك، وما أن وطأت قدماي أرض النقليات " الترمينال "  في رانية حتى تعرفت على مجموعة من البيشمركة من أبناء محلتي في كركوك ، ناداني أحدهم غير مصدق بوجودي في تلك الظروف في رانية، وقبل أن اسأله أي سؤال ، قال لي بأن والدتي وأختي بخير وقد ألتقى بهم قبل حوالي الأسبوعين، وهم الآن في مجمع على الحدود الإيرانية، فأجبته مسرعاً . وماذا تنتظر ؟ هيا بنا إلى هناك، وبينما نحن نتهيأ للذهاب، وإذا بأحد أبناء عمومتي قادماً مسرعاً نحوي بصحبة أثنين من البيشمركة . وبعد العناق والتبويس، بلغني بأن الأهل بخير حيث أستطاعوا جلبهم قبل ثلاثة ايام إلى السليمانية، فبدل التوجه صوب الحدود توجهنا سوياً إلى السليمانية . وجدتهم في حالة يرثى لها في بيت خالي حتى من أبسط أدوات الطبخ ناهيك عن الفراش والأغطية والملابس وغيرها… فمن بركات السويد عليّ كان جيبي عامراً. المهم هو أنهم أمامي أحياء يرزقزن .
هناك طرقات كثيرة غير رسمية يسلكها الكورد إلى كركوك تحت جنح الظلام، والأخبار التي وصلتنا عن طريق بعض الاقارب والأصدقاء الذين كانوا يجازفون بالذهاب إلى كركوك ليلاً لتقصي الأخبار والاستطلاع ، بأن آلاف البيوت التي هجرها اصاحبها قد أفرغت تماماً في عمليات سطو ونهب منظم ومن ضمن تلك البيوت كان بيتنا الذي لم تبقى فيه حتى الملعقة والسكين وحتى الأقفال قد نزعت من الأبواب والمغاسل أيضاً  " وتانكي " الماء الأحتياطي على السطح ، كانت الشاحنات تأتي من الحويجة وتحمل الأثاث والاغراض وكل شئ تحت أعين الشرطة والجيش وقوى الأمن والمخابرات دون أن يحركوا ساكناً، بل وصلتنا الأخبار بأن أكثر البيوت نهبت من قبل ما كان يطلق عليهم بالوافدين وهؤلاء كان يطلق عليهم من قبل أهالي كركوك " بجماعة العشرة آلاف " حيث كانت الحكومة تعطيهم عشرة آلاف دينار عراقي " أيام زمان " وقطعة أرض وتوظفهم، مقابل نقل نفوسه من مسقط رأسه إلى كركوك ضمن سياسة التطهير العرقي أي  سياسة التعريب، وهناك الكثير من الأحياء من أبناء مدينتي كركوك شاهدوا بأم أعينهم حاجياتهم وأثاثهم في بيوت هؤلاء المرتزقة دون أن يستطيعوا حتى الهمس بأن تلك هي أغراضهم .
كانت والدتي تبكي طوال الليل على مدخراتها وشقاء السنين والعمر الذي راح هدراً بين الهروب والتنقل من مكان إلى آخر، وكنت أجيبها بهدوء لا تهتمي يا أماه كل شئ يعوض المهم هو أنت بخير وهذا أهم  شئ بالنسبة لي وسأصطحبك هذه المرة معي إلى السويد ولا أتركك ثانية ما حييت .
لكني كنت في داخلي أكثر حرقة منها وأتقطع ألماً على بعض الأشياء التي نهبت مع باقي الحاجيات والتي كنت أعتبرها أغلى من كنوز العالم، منها ألبومات صور العائلة التي تمتد إلى ما يقارب الستة عقود، ذكرياتي وطفولتي وصور الوالد المتوفي وأنا عمري تسعة سنين وصور أخي الشهيد وباقي الأهل والاقارب الذين رحلوا عنا إلى دنيا الآخرة … كنت اسأل والدتي عن صندوق صغير يخص الوالد كانت تخفيه في دولاب تضع عليه الأفرشة واللحف المعدة للزوار، كان الصندوق الصغير يحوي عشرات الرسائل المتبادلة بين الوالد ورفاقه، فيها الكثير من المعلومات عن تلك الحقبة التي عاشها الوالد بحكم وضعه السياسي السري في الجيش في العهد الملكي والعلني في عهد الجمهورية الأولى، ومعلومات عن جنود مجهولين قضوا عمرهم في مقارعة الدكتاتورية .
 كنت قبل خروجي من العراق مجبراً، وفي أحيان ٍ نادرة بعد منتصف الليل بعد أن كانت الخمرة تفعل فعلها الفانتازي في رأسي أنتهز فرصة نوم الوالدة، لأخرج الصندوق الصغير وأتمعن في الصور " أبيض وأسود " وأقرأ بعض من الرسائل، كانت بعضها وكما أذكر مكتوب بالحبر الأخضر مما يدل على أن كاتبها كان ذا شأن في أجهزة الدولة، وفي كل مرة كنت أزداد أصراراً على نشر تلك الرسائل حين تأتي الساعة المناسبة، رسائل فيها بعض جوانب تارخ الحركات السياسية المعارضة في العراق، الغير مدون .
ومن ضمن الاشياء التي نهبت أيضاً والتي كانت تجلب الدهشة والسرور إلى نفسي، مجموعة من الصحون الفخارية والنحاسية النادرة منذ العهد العثماني ورثتها والدتي عن أمها ، كان بعضها يعود إلى نهايات القرن الثامن عشر، صحون مزركشة ومزخرفة بأجمل الالوان، قطع فنية نادرة، تحف لا تقدر بثمن، كانت والدتي ولا تزال تذكر أسماء الكثير من الزخارف والصور المنقوشة عليها، وكانت تخرجهم مرة واحدة في السنة لتغسلهم بحذر شديد وتقول هذه الصحون من ذكرى أمي، وتعيدها بعد تجفيفها إلى مكانها .
في أي بيت وفي أية زاوية تقبع تلك الصحون الآن ؟ وهل يدرك من سرقها القيمة التاريخية وحتى المادية  لها ؟ أم تراها أنكسرت وتحطمت في زحمة الأستعجال في النهب والفرهود .
هذه هي أغراضي الثمينة . أين سأجدها ؟ ومن سيعوضني عنها ؟ أمعقول وها عمري يقترب من الخمسين وليست لديّ صورة واحدة عن طفولتي وصباي وشبابي، وكثيراً ما يسألونني أطفالي عن صورٍ قديمة لي كي يروا كيف كانت هيئة وشكل والدهم الذين لم يروه غير رجل كبير يأمر وينهي، وذات مرة سألتني أبنتي الصغير " سماح " : بابا هل كان عندك شعر فوق رأسك في مضى أم كنت هكذا طول عمرك، أبتسمت في وجهها الباسم ولزمت جانب الصمت، وقالت لي ذات مرة، أين أبوك ؟  وكلما تقدم بيّ العمر في هذا البلد الأسكندنافي أزداد شوقاً للماضي وتذكر من فقدتهم من الأحبة، وكم تمنيت في الكثير من اللحظات الخاطفة أن أتمعن في صورة الوالد والأخ والآخرين . ولا تزال والدتي بعد كل صلاة ترفع يديها الطاهرتين نحو السماء تناجي جل جلاله بأن من نهب دارنا، أن لا يرى الخير في ماله وذريته .
 رباه سامحنا وأغفر لنا خطايانا وأنت السميع المجيب .  
                                                                               ـ السويد                   








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم