الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليوم العالمي لحقوق الإنسان في غرفة الانعاش!

وجيهة الحويدر

2007 / 12 / 18
سيرة ذاتية


اسبوع مضى على العاشر من ديسمبر، اليوم العالمي لحقوق الانسان. اسبوع مضى على وفاة والدي الرحيم.

كان يوم مثل كل يوم، مشمساً جميلا ومبهرا بسطوعه. ظهر وكأنه يوم لا يحمل اي وعود خاصة لأحد، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لوالدي المسجى على فراش المرض في غرفة الانعاش. حيث اقترب منه شبح الموت خطوة خطوة، واندس في جسده العليل بنية الغدر. كنتُ واقفة في غرفة والدي أمام سريره والذي بدا غريب الشكل من كثرة المواسير والاسلاك واكياس العقاقير البلاستيكينة المتدلية والمتصلة بالآلات المحاطة به، كأنها كلها اتت منذ الصباح الباكر لتقتات على نَفَس والدي الضعيف، وتتزود من دقات قلبه المُنهك. صمت الغرفة كان مزعجاً نوعاً ما، وحيطانها البيضاء تثير البلادة في الذهن. تقاسيم وجه والدي لم تكن توحي بشيئ سوى انه يغط في نوم عميق، وانه مستعد للرحيل الى عالم نجهل كل شيئ عنه. نَفسَه كان مصرا على المواصلة بمساندة آلة التنفس، وقفصه الصدري يرتفع ويهبط بوهن شديد. امسكتُ بيده المتثلجة ففضحت برودة جسده الخبر، وهمست لي بلغة لا يعرفها سوى من كان في ذاك المكان وبنفس الموقف.. قالت: إن الساعة اقتربت! ادركت حينها أن عقاربها تسير بتسارع وبدون اي نية للتوقف. تأكدتُ أن كل الشواهد تؤشر بأصبع واحد على ذلك الموعد المؤجل منذ عقود وعقود، وأنه لم يبقى سوى ساعات قليلة من عمر والدي، ثم سيلتهمه الزمن ويتلاشى بين طيات هذا الوجود المحيـّر.



تأملتُ وجه والدي بإمعان وخنقتني العبرة. دائما تتزاحم الافكار ونشعر ان ثمة اشياء كثيرة نود ان نقولها في لحظة الرحيل. لمدة شهرين تقريباً وأنا ازوره كل يوم في المستشفى، كان في حالة افضل. كنتُ أأتي لألمُ ما تبقى لي من جذوري في هذه الأرض، ولأحفظ منه ما يمكن ان اقدر على حفظه حتى إن خانتني الذاكرة، وهذا ما تفعل بي من حين لآخر. سألته عن طفولته وعن شبابه.. عن فرحه وعن ترحه.. عن نجاحاته وعن اخفاقاته.. عن كل ما يمكن. بكينا معاً وضحكنا معاً. شاطرته غذائه الباهت الطعم كي اشجّعه على أن يأكل، لم تكن لديه شهية ابدا، فأجبرته على أن نتقاسم اللقمة كي اخفف عنه عبء إرغام النفس على الطعام. تلك أيام ستبقى معي في الذاكرة ما حييت.. ستظل ممزوجة بالحب الحزن.



حين أتذكر والدي وتوقيت موته في نفس اليوم العالمي لحقوق الانسان، ابكيه واحزن عليه بشدة، لأنه عاش حياته وهو يعلم انه انسان على ارض عاجزة على ان تضمن اي حق للبشر القاطنين فيها. الاحساس باللا اهمية أكبر من أن تتحمله النَفس، كل شيئ واجهه والدي، وكل جهة ذهب اليها كانت تخبره دائما بأنه إنسان بلا قيمة ولا اهمية، لأنه مجرد مواطن مثل معظم من يعيشون في هذه المنطقة من العالم. كان انساناً عادياً جدا، لم يملك اموالا طائلة تظلل عليه وتبعد عنه الطواغيت، ولم يكن لديه قبيلة جذورها راسخة في الارض تحميه من الجبابرة حين يغدر به الزمن، ولم يتقلد قط منصباً كي يسدل عليه هالة حماية ودعم، ولم يكن له أخ ولا أخت. كان رجلاًَ صامتاً وصابراً ومتعايشاً مع القهر الذي يعيشه مثل اهل قريته وسائر أهل البلد، خاصة الذين من فئتـه من الناس.



والدي كان مواطناً صالحاً جدا بكل ما تحمل تلك العبارة من معاني، عاش حياة طويلة تحوم كلها حول عدم المساس بالخطوط الحمراء أو الإقتراب منها، وهذا ما فعل، لكن لم تشعره قط أرضه التى افنى حياته فيها وعمل من اجل اعمارها، بأنه انسان ذو قيمة، وانه لا بد ان تُحترم حقوقه وحرياته وخصوصياته، ومع ذلك لم يقل كلمة واحدة ولم يتذمر، لكن قبل ان يسلّم الروح للرب، أعلن سخطه مرة واحدة على كل ماجرى له خلال حياته، وكسر جدار الصمت، وبعث صرخة مدوية بلفظ انفاسه الأخيرة في اليوم العالمي لحقوق الانسان. هذا احتجاجه السلمي الأخير لما عاصرَ من قهر وهو الاحتجاج الأوحد.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد.. إماراتي يسبح مع مئات الفقمات وسط البحر بجنوب إفريقيا


.. الأمن العام الأردني يعلن ضبط متفجرات داخل منزل قرب العاصمة ع




.. انتظار لقرار البرلمان الإثيوبي الموافقة على دخول الاستثمارات


.. وول ستريت جورنال: نفاد خيارات الولايات المتحدة في حرب غزة




.. كيف هو حال مستشفيات شمال قطاع غزة؟