الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيامند هادي/ محاولة في كتابة مدونة الوعي الشقي

علي حسن الفواز

2007 / 12 / 18
الادب والفن


تسعى القصة القصيرة الكوردية المعاصرة الى البحث عن فضاءات جديدة تستوعب حراك الواقع الاجتماعي/السياسي وتحولاته السريعة، وتمثل اسئلته المثيرة، تلك التي انكشفت على عوالم غير مؤنسنة، وغير طاعنة في حياة الكوردي المهاجر والمطرود والحالم،فضلا عن اشكاليات التعاطي مع الكثير من المعطيات الفنية التي بدأ يتلمسها (الخطاب الثقافي) الكوردي وتجريباته المعاصرة وتقنياته الاسلوبية والبنائية ، وهذا التجريب ليس ركضا في الفراغ الواسع او ايهاما بالمغامرة ،قدر ماهو محاولة للبحث عن تحققات في ظاهرة السرديات المعاصرة وتلمس خصائصها ومولداتها الجديدة الباعثة لامتيازات حداثوية لبنائية القص ووظائفه،ومقاربة تنويعاته ، الاكثر جدة في مقاربة بنيات الاستعارة والرمز والدلالة في القصة الكوردية ،وبما يمنح خياراتها الاسلوبية قوة وحرية، تبدو اكثر تجاوزا واكثر خصوصية ،خاصة اذا عرفنا ان تاريخ القصة الكوردية يتسم بهيمنة الاتجاهات الواقعية والرومانسية والتاريخية بدءا من قصة احمد مختار الجاف) وقصص محمد على كوردي وجمال بابان ومحرم محمد امين وانتهاء ب(حسين عارف) الذي حاول مع مجموعة من القصاصين الذين استثمروا عنفوان حركة ( روانكه)المرصد وتأثروا بها،، ان يؤسسوا انطلاقة جديد لهذه القصة عبر زيادة جرعات التجريب بمستوياته المتعددة و توظيف العديد من تقنيات ما بعد الواقعية باستغراقاتها النقدية الوصفية والواقعية الجديدة !! وتجاوز تلازماتها التي وضعت القاص امام اشكالية ثنائية يواجه فيها ازمات الواقع المباشرة والعادات والقوة والاضطهاد والسلطة والتخلف والحرمان والقهر الاجتماعي والسياسي ،، وهذه الازمات /المهيمنات جعلت المثقف الكوردي في سيولة لعبة وجودية قاهرة تتجوهر فيها رغبته القصية عبر الاحتفاظ برمزية لغته السرية وروحه الماكثة في شفراتها وعلاماتها ،فضلا عن مقاومته الاخلاقية والقيمية في دفاعه عن الامكنة/امكنته في الجغرافيا والوجدان المفتوحة على شراهة المحو ،،ربما بسبب طبيعة الحياة الكوردية الظاهرة والسرية وعلاقتها الاشكالية المعقدة مع ظواهر المكان الطارد والتاريخ الزائف والسلطة والحرب والهوية والجسد ، اذ تشكل هذه الظواهر وحدات غياب واقصاء ،، كثيرا ما وجد فيها القاص الكوردي مجالا نفسيا وبنائيا مقموعا يدفعه للاستغوار في عوالم المكان واللغة بحثا عن بنيات تعويضية/اشارية بكل ما تحمله من طاقات رمزية واستعارات وشفرات..
ازاء هذا نجد ان الكثير من التجارب القصصية الجديدة في الادب الكوردي وجدت نفسها امام اشكالات معقدة من الصعب الفكاك عنها بسهولة ،لانها اولا،، ذات طبيعة ضاغطة وقهرية ، يتكرس فيها تاريخ المتن الحكواتي للقصة التقليدية،وكذلك استبطانها ثانيا لسلسة من الظواهر السردية ذات الموجهات الداخلية النفسية والاسلوبية(الرومانسية، التاريخية ) وهذا بطبيعة الحال اوجد نوعا الشقاق الاسلوبي بين مستويات وعي القصة/الحكاية ،، والقصة/التجريب، تلك التي انفتحت على مجموعة من الاسئلة المضادة التي بدت وكأنها اشبه بالغوايات المحرضة الدافعة لتفجير رغبات حميمة واعية لشرط تمردها الوجودي على نسق هذه والقهريات وباتجاه البحث عن ترسيمات سردية/كتابية تتجاوز عقد المكان واللغة والتاريخ باتجاه عقد الذات المأزومة بوعيها وعلاقاتها ومواقفها وحريتها ،والتي بدت مفتوحة على مناطق اعمق غورا واكثر ثراء، تتجدد فيها مخيلة القاص وهي تلامس عوالم لم تكن مألوفة ،تفتح تقينات الكتابة فيها على مجالات تفكك اسئلة الواقع وتجلياته، و تقترح لمفاهيم الكتابة والخطاب والحكاية مديات اكثر تجسيدا لحيوية الانزياح في البنيات النصوصية واكثر اقترابا من شروط التوتر والانشداد والتخايل التي انغمر فيه القاص وهو يرصد واقعه النفسي /زمنه/اسئلته/ وعيه الشقي ،بنوع من الريبة التي لم تعد تطمئن لتاريخ المرويات وتاريخ الشخصية الخارجية ،في محاولة لاقتراح تاريخ اخر للروي الداخلي والشخصية الداخلية التي تستعيد عبر منولوجها الداخلي احساسها العميق بقوة الذات المغيبة ،وقدرتها على تحويل هذا الاحساس الى قوة كشف ورؤية ومواجهة. ولاشك ان منعكسات وعي هذه الشخصية ستلقي بظلالها على وعي مشكلات الزمن والمكان واللغة والفكرة ،حيث ستجد نموذجها /بطلها قادر على ان يتخيل بافراط ،وان يقدم تعريفا لحيواته المسحوبة من خارج تاريخ المتن الحكواتي ،اذ يكون هؤلاء الابطال هم جزء من مبنى الفكرة والوعي والعالم الذي يصنعه القاص بكل وظائفه ومستوياته الدلالية وليس متن التاريخ ..
في قصص القاص سيامند هادي نجد خصوصية استثنائية للذات البطلة التي تتحول الى محور اشكالي تدور حوله الافكار والثيمات ،اذ يصبح وعي هذه الذات المأزوم بالحرية والمكان والجسد رهينا بانتاج ازمات وجودية غالبا ما تفضي به الى نوع من الوعي الفنطازي او الموت الوجودي او الانتحار الذي يمثل موقفا احتجاجيا من الخارج ،،وهذا الخصوصية تتجسد ايضا في محاولة القاص الى اقتناص ماهو نفسي/باطني تتجوهر عبر ما تفترضه الذات وهي تنحاز الى ترهين الجمالي/الصوري للفكرة العابرة التي تثيرها رغبته في التمرد على تاريخ ازمة المكان، وازمة وعيه القلق المشوش ،وتمظهره عبر الكثير من الدوال النفسية العصابية ، والتي يستمرأها عبر تقديم نموذج البطل الذي يتحرك في عوالم استغوارية محدودة وغارقة في انشغالات رمزية ، لكنها بالمقابل مفتوحة بشراهة على العالم /الحرية /الافكار/ الوجود ، الموت ، فبطله في قصة (رحيل الام الكبيرة) هو بطل وجودي يمنح تفاصيله اليومية المزيد من التوهجات التي تقوم على تفعيل ثنائيات الجدة/الابن (الحفيد) ،الماضي/المستقبل ،الموت/الحياة،الوجود/الغياب،التطهير/العقاب ،وهذه الثنائيات تتجاوز عقدة الحكاية ومكونها القائم على اساس تبادل الادوار والاصوات،باتجاه صناعة ادوار افتراضية تجعل من هذه الثنائيات مولدة لحكايات صغيرة ،،حكاية الاب الذي اخبروه نبأ وفاة جدته، حكاية الجدة المحملة بالوصايا ،حكاية الابن الذي يشرب الدواء في صورة تعويضية/مقابلة لفكرة الموت التطهيري/التراجيدي ،وهذه الحكايات تجد في الزمن الدائري(امسية الثلاثاء) مستوى دلالي يعبر عن اعتباطية وعي بطله وعبثيته ازاء الوجود الذي يفلسف نظرته للموت وفكرة الزمن الذي يكرر نفسه وكأنه ازاء لعبة من الخواء والعدم الذي يغترب فيه بطله عن الواقع والوعي اليومي باتجاه نوع من الوعي الشقي الغائر في تلافيف التأويلات !!
تتراكب في هذه القصة احتمالات سردية متعددة :
اولها ،،الاطار الذي يحدد البنية التصويرية للحدث الاخباري/النفسي الذي تم به اخباره بنبأ الوفاة الاولى (فجأة في تلك اللحظة اخبروه فيها النبأ) وهو اخبار يقوم على عتبة تجريدية يغيب فيه المخبر ،مقابل عدمية الزمن الافتراضي الذي حدثت به الوفاة التي يتكرر في نهايتها نبأ الوفاة الثانية ، وهذا ما يجعل القصة وكأنها بنية تداعي تقوم على تقابل وحدتين خبريتين تتداعى بينهما رؤية القاص ،وهو ما يؤكد منظور عبد الله العروي الذي يقول ان القصة في النهاية تتحول الى سيرة ذهنية.
ثانيهما ،الرؤية التي تهدف الى الكشف عن بنية الاغتراب الوجودي عند بطله الذي يؤسس رؤيته على الشفرة الاخبارية ،بما يجعلها شفرة استعادة لحيوات وعلامات غائبة ،الجدة،الحكايات،عقدة الذنب،التفاصيل المهملة،الدواء،والتي تترابط وفق رؤية القاص لتصنع خصوصية تداولية تنتهي بالدواء الذي يكون سببا في صياغة نبأ الموت الثاني..
ثالثهما، اللغة والتي تجعل منها المترجمة حاملة لميزات تعبيرية نفسية تقوم على اساس لغة الذات المؤولة المأزومة ،وهذا ما يمنح اللغة نوعا التقاطع السردي الذي اعتادته القصة الواقعية ،اذ تبدو اللغة هنا غير ناقلة لبنية توصيلية تعرّفية ،وانها لغة تخيلية ترسم ازمة البطل واحباطه وتداعياته ،هي ليست معنية بالتفاصيل قدر اهتمامها بتشكيل خيوط الزمن الدائري ،ونقل شفرة الاحساس وتداعيه الذي يعيشه البطل وهو يواجه الثنائية الخبرية وما بينهما من تداعيات واحباطات..
في قصة (الغرفة التي انتحر فيها صديقي) يبدو القاص اكثر تعبيرا عن فكرته الوجودية ،واكثر انغمارا في وعيه الشقي ،فالصديق الميت/المنتحر ربما هو ذات البطل الذي يقصّ علينا مراقبة موته وتتبعه ليومياته واستعادة بقاياه العالقة في الامكنة ..
ان ثيمة الموت هنا هي فكرة احتجاجية ،يتمثل فيها البطل افكار صديقه وصوته الخفيض لصنع مادة فكرية /نفسية/فلسفية تناقش فكرة الوجود والموت ،فشخصيات القصة معلمون في مكان بعيد ،تكمن مأساتهم في وعيهم الشقي الاستلابي الطارد لكينونة المعلم/المربي(باث الشفرات) وانزياحها نحو الشخص اليائس السوداوي(عدمي الشفرات) الذي يرى العالم والوجود من خلال استحضار مجموعة من العلامات فتشية ذات دلالة انثوية (السكين الحادة ،المقبرة التي تقع عند مدخل المدينة، ثيمة الموت التي تتكرر) ولعل تداعيات البطل وهو يستعيد اشياءه تؤكد هيمنة الموت الوجودي والفلسفي ،فالغرفة والشبابيك والسرير والباب والجدار،كلها تحمل فيتشات الموت/الدم المتناثر والاصابع والاقدام العالقة ، وهذه الرؤية الكابوسية قد تعدينا الى فضاءات التأثر بالنزعات الكافكوية او بعض اجواء الستينات حينما يحضر البطل العدمي المتمرد الساخط بكل اسئلته ورعبه واحتجاجه ،لكن القاص بالمقابل يقدم لنا كانئا متعاليا رائيا ، يحايث بوعيه وصراعه وصوته الواحد السارد والكاشف ،، تفاصيل الرعب الكوني الذي تختصره الغرفة . ان هذه القصة تعكس ازمة الوعي الذي يستعيده القاص عبر مونولوج طويل يستغرق مساحة القصة ،وربما هو مراجعة للذات المقهورة وعلاقتها المأزومة بالعالم والامكنة .. اذ تبدو هذه الذات اكثر صخبا واكثر اندحارا في اختيار موقفها السوداوي ،واكثر تعبيرا عن هامشيتها ولا جدواها ، تلك التي تجعلها لاتملك اية حساسية بالاثم او الخطيئة ازاء هيمنة موضوعة الانتحار والموت اختيارا .
ان هذه الكتابة هي انموذج لتفتيت الزمن واختزاله الى لقطات تستبدل السرد ،فالبطل القاص الرائي والراوي يملك علاقة واضحة مع الخارج ،وان احساسه بالموت هو المهيمن على فكرة اللقطة التي يختارها دون مونتاج تتابعي ،وهذا مايجعل تداعيات الافكار مابين لقطة واخرى خاضعة لمخيال حاد يوظف الفانتازيا والايهام في توليد صور مفارقة تمنح اللقطة نوعا من الاثراء والاغواء..
لقد قدّم لنا القاص لعبة قصصية متميزة ،أجاد من خلالها توظيف اللغة التصويرية بمهارة،وضغط الزمن برؤية بطله الذي يفرّغ وحدات هذا الزمن من امتدادها باتجاه التكثّف والاختزال عند ايهامات هذا البطل وتنقلاته واستعاداته من الماضي القريب ((مساء دفن صديقي،،في اول عقب موت صديقي،، في تلك الليلة ،، ،في الليلة الاولى بعد موت صديقي،، في آخر ليلة ))ولعل هذه الخصوصية بالمقابل اسهمت في افراغ وعي البطل الرائي من تتبع المزيد من اللقطات ،والوقوف عند لقطات مركزية باثة تصطدم فيها فكرة الموت مع الحياة ،والوجود مع العدم ،والغياب مع الحضور ،لافراغ بطله من محتواه الانساني وصناعة بطل له محتوى وجودي فلسفي هو اقرب الى فكرة الانسان الاحتجاجي المتمرد الرافض غير المتواطؤ مع عالم يغتال قيم الجمال والحياة..
وفي قصة (عودة رجل الظلام) يتجاوز القاص نفسه كثيرا باتجاه تقديم نص باهر يكشف عمن موهبة متميزة حقا ،موهبة تقتنص الزمن وتعيد تخيله ومطّه وكأنه زمن شخصي يمكن توصيفه وتركيب وحداته في انساق متعددة ،واحسب ان مادة الزمن هنا هي الفكرة البطلة التي يجعلها الكائن الرائي المتعدد الوجوه الثابت في المكان/الغرفة ،حيث تبدو نقلات الزمن عبر نقلات ما تكشفه الرؤيا في اللوحة ، فاللوحة هي العالم التعويضي المتحرك الذي يقابل سكونه واندحاره وملله، وهي اللحظة التي تشبه ثقب باربوس في الجحيم، الذي يكتشف من خلاله عالم يتوهمه،ولا يلمسه ، وهذا التقابل بين ثقب باربوس ولوحة الجدار هو تبادل ايهامي يعكس ازمة الذات ازاء العالم ،فهذه الذات تتوهم انها صاحبة الرؤيا وانها الكاشفة في الظلمة والفائقة في تخيلها المتعالي( ينظر الى شجيرة خارج النافذة ويتخيل بان كل شيء في الخارج تحت سيطرته وان جميع الحالات والمناظر تنتظر اوامره) لكنها بالمقابل تظل حبيسة وعيها الشقي الذي خذلانه عند توهمه برؤية شبح جده في احدى زوايا الغرفة،حيث (هرع صرخا وتخلص من الغرفة) وهذا الخلاص هو عودته الى الخارج صانع ازماته وهروباته ..لقد استطاع القاص توظيف الثيمات النفسية بمهارة ،وتحريك الشخصية الواهمة باجادة ،استثمر فيها بناء العقدة والوهم وشراهة المخيال، وهذا الاستثمار اعطى للبنية القصصية روحا متوهجة باثة لتداعيات وتواليات تعكس ظاهرة (الوعي الشقي) الذي تلبس بطله ازاء الخارج والحيوات والامكنة والعلاقات ، وقد تكررت هذه الظاهرة في قصصه الثلاث التي اشرت بامتياز ولادة قاص جديد يؤسس اشتغالاته على ثيمات طاردة للتاريخ والسرديات التقليدية ،اذ يلتقط اليومي بازماته النفسية ،والشخصاني بتفرده بمواجهة تداعيات هذا اليومي ،نائيا بنفسه عن هيمنة الانماط الشكلانية التقليدية بمزاجها التاريخي والرومانسي التي طبعت القصة الكوردية لعقود طويلة ...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في