الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة

موفق مجيد

2007 / 12 / 19
الادب والفن



الجثة
لم يدع موطئ قدم الا وسحقه تاركا عينيه تبحث بحزن عن الامكنة التي قد يجد فيها ابنه حتى ولو جثة، ليعود في اخر النهار حاملا همومه، ليبدأ في صباح اخر هذه الرحلة المضنية دون شك. كان فيها يقضي نهاره القائض عبر شريط قيري يصل احد اطرافه لباحة ترابية تغص باطفال يلعبون الكرة بينما يصل طرفه الاخر بشارع رئيسي تلوذ بظلاله مجموعات شبابية، كانت كل الشوارع تتشابه لم يخلُ احدها من قطع الدم المنتشر على اطرافه، وبعض الشباب الذين يتربصون هنا وهناك لأي جديد، تغتاله هذه المشاهد كلما ينفرد بنفسه.. لا يدري ما الذي جعله أسير رغائب متنامية متصاعدة، شعور يهبط فجأة حيث تبرز بمخيلته صور مشتهاة مع كل خطوة يخطوها في البيت، لم يعد امامه سوى الخروج، دوى خلفه صوت اغلاق الباب بقوة، كان الصدى يعقب حركته السريعة، ثم يتلاشى مع حلم المسافة المنحدرة حتى نهايات الزقاق. لا شيء يمكن ان يشغل حيزاً صغيراً من تفكيره، ولم تسيطر عليه اي فكرة سوى كيفية العثور على ولده او جثته التي يمكن ان تكون مرمية في احد الازقة، او اكوام النفايات المنتشرة في بغداد..
لم يبق الا الطب العدلي، كان كلما ذكره، يحتقن وجهه وتعتريه رجفة قوية فيظل جسده يتلوى من حدة التذمر، ابتلع ريقه كان يتمنى ان يجد جثة ابنه مرمية في احدى برك النفايات على ان يذهب الى الطب العدلي وشارعه الذي سمع عنه الكثير من القصص.. قالوا انه يتحول ليلا لتنين اسود يلفظ جثث المارة وبقع الدم المتخثرة على جانبي الطريق، بيما تختفي قطع اللحم الانسانية في اكوام النفايات الممتدة حتى جوانبه الترابية.. لم يجازف بالذهاب اليه مشياً. بل اشار الى احدى سيارات التكسي واختفى عبر حلكة الشريط القيري الملغوم بجدران يمتزج فيها الغبار المتطاير عبر حزمة الأضواء المنطلقة من السيارات اللاهثة بعد تعب الليل المزري. اراد ان يتذكر بعضاً من ملامح وجه ابنه وهو يهم بالخروج في ذلك اليوم لقد فقده منذ فترة طويلة، بدى له انه يبحث عن وجه اخر، ضباب شفاف كسا كل ملامح وجهه لم يظهر منه سوى انفه الذي بدى اطول بكثير.. ظل صامتا .. حاول ان يعصر ذاكرته الخاوية لكنه لم يستطع ان يتذكر شيئا اخر... لاحت أمامه من بعيد لوحة كبيرة كتب عليها دائرة الطب العدلي ظلت عيناه معلقتين باتجاهها، وقفت السيارة اراد ان يحرك قدمه ولكنه لم يستطع، نظر لصاحب السيارة كانت عيناه تتوسلان به لمساعدته على النزول، حاول بكل ما اوتي من قوة، كان يشعر بالدوار، لحظات الالم التي انتابته اشد قسوة من قبل، ربما فاجأه الم هنا، والم هناك، وثارت معدته بعد حين، شيئ اثقل من الحديد يكبو فوق حيز جسده النحيل.. لم يرعوِ لحالات كهذه.. ولكن ما شاقه هذه الغشاوه والضبابية التي احاطت بؤبؤ عينيه لتجعل مرئياته اشباحاً.. أجساداً غامضة تتحرك هنا وهناك.. حشود من الناس متجمهرة عند مدخل الدائرة لم يستطع التميز بينهم حيث يبدو من الوهلة الاولى ان على اكتافهم جبالاً من الهموم تعيقهم عن رفع رؤوسهم الى الاعلى قليلا. فتراهم يدورون في باحة الدائرة وبنفس الوتيرة ذاتها، البعض منهم يئن والبعض الاخر يبدو انه لم يفق بعد من شدة الصدمة التي هو فيها.
.. ظلت قدماه ترتجفان وهو يطوف بين هذه الجمهرة، ارتجفت شفتاه وهو يسأل احد الاشخاص الذي أومأ له على احدى الغرف.. خطى خطوات ثقيلة بعمر السنين التي قضاها وهو يشاهد ابنه يحبو ثم يمشي، ابتسم وهو يتذكر اول كلمة نطق بها.. بدأت عيناه تذرف الدموع وهو يتذكر كيف كان يستقبله فاتحا يديه كلتيهما وابتسامته العريضة تملئ وجهه... وعندما توجب عليه مغادرة الدار وعارض هو ذلك.. نعم لقد عارض هو ذلك لماذا لم يجبره.. لقد كان مايزال صغيرا... لماذا..؟
يده ترتجف وهو ممسك بسيكاره يتطاير الرماد منها وهو يحاول ان يقربها من شفتيه المرتعشتين في حين مازالت عيناه معلقتين بأتجاه شيء مجهول، لم يعرف ماذا يريد بالضبط، ان يجد جثته فيها ام لا..
وجد احد الموظفين بشعر مجعد وعينان تغلبهما القسوة مرتديا صدرية بيضاء عليها اثار ببقع صفراء منتشرة على أرجاءها.. ظل يحاور نفسه متسائلا هل استعارها من احدى الجثث.؟ اخذ لسانه بالتلعثم وهو يحاول ان يسأل عن ابنه، لم يدعه الموظف يكمل بل بادره هو بالقول..
- ما هي اوصاف الجثة التي تبحث عنها؟
لم يستطع النطق بكلمة بل ترك عينيه تدوران في وجه الموظف مستغيثة.. اجابه الموظف عندما رأى الحيرة مرتسمة على وجهه
- ادخل هنا وابحث..
انفرجت شفتاه، بدأ ينطق بصعوبة..
- الذي ابحث عنه اختفى منذ مدة طويلة...
- اذن لدينا جثة واحدة لم يتعرف عليها احد الى الان.. لعله يكون المقصود.
تشبع انفه برائحة الموت المنتشرة في ارجاء الغرفة، ولم يعر اهمية لأكداس الجثث المنتشرة بين زواياها، بل ظلت عيناه مثبتتان على جثة مرمية قد غطت ببعض قطع الكارتون القديم..
مد يده ليرفع قطع الكارتون كل ما بدا منه عينان لا تتسعان الا لمساحة حزنهما وانف صغير كحبة كروم يافعة ناضجة اما جسده فشك في تقدير ذلك كان الظل قد كساه بشكل هندسي دائري.. تخترقه بعض ومضات ضوئية صغيرة ترتعش، كان يتحسسه بأنامله المتشنجة الناعسة. جذبت انتباهه شامة على جسد الجثة.. لم يرَ هذه الشامة على جسد ابنه، ولربما شاهدها، ولكنه لم يبال لذلك، قد تبدو الجثة اصغر حجما من جسد ولده، ربما يكون سببها نزفها للدم بغزارة، سأل نفسه بحيرة منذ متى بدأ ابنه بوضع خاتماً في يده اليمنى ، ولكن ربما كان يضعه ولم ينتبه لذلك ايضا.. وربما هي جثة ولده وربما...
قطع استرساله هذا صوت الموظف..
- هل تعرفت على الجثة..
ظل يقلب نظره بين الموظف والجثة، اراد ان يتكلم ولكن خانته قواه على التفوه بأي كلمة.. ظل صامتاً تبحر عيناه في ارجاء الغرفة ذات الحيطان المكسوة بالسوداء. ثم حرك شفتيه ببطء:
- لا ادري... ما زلت اشك في ذلك..
اسرع خارجا من الغرفة يتمتم بكلمات عن اوصاف جسد ولده، لم يصدق يوماً بأنه سوف ينسى ولو ذرة من جسده الذي نمى على يديه طول تلك السنين.
ترك قدمه تقوده الى باحة الدائرة شاهد بعض من التوابيت المحمولة على الاكتاف، وقد استعادت بعض الوجوه التي ظلت محفورة في ذاكرته اتزانها، وهو يتخيلهم يمشون بهدوء على تراب المقبرة، وقف عند مدخل الدائرة قليلا.. ثم استدار ودخل من جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي