الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة الوحش

حمزة الحسن

2003 / 11 / 23
الادب والفن


كلما وجدت نفسي أمام شخص يعرّف نفسه على أنه طورد ولوحق وسجن ونفي وتشرد وجرح وقاوم، شعرت بأنني أمام شرطي من شرطة الفكر أو جلاد مستقبلي، ما عدا استثناءات نادرة خرجت من الجحيم وهي تحمل، رغم النار، ملامح الفراشات وقلوب الأطفال، وهؤلاء كانوا مرشحين في أزمنة غابرة لوظيفة كبار الأنبياء والرهبان والحكماء والعشاق.

وصحيح قول الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي وهو شاعر ومناضل قضى 8 سنوات تقريبا في السجن:
من كثرة ما عاشرت الوحش
رائحته تلتصق
الآن
بجلدك).
 
المصاحبة الطويلة للوحش، والحقد، وسلوك الانتقام، والإذلال الطويل، وكل المشاعر الصفراء الكريهة تعلق في جسد وروح ومشاعر الضحية حتى النهاية وتطبع سلوكها دون وعي، ولا تعود تفكر إلا من خلال ثنائية العدو والصديق، أو الجلاد والضحية ..الخ... وهذه الثنائيات تتناسل كل يوم حتى يقع في الحبس الذي لا فكاك منه: حبس الرؤية. أي أنه يرى العالم بعين جلاده القديم. ونحن لا نغادر سجوننا الداخلية لمجرد فتح الأبواب، بل أن بعضنا يحملها معه بكل حنان أينما ارتحل ويدخل كل يوم، بل كل لحظة، خصوما جددا فيها حسب شروط جلاده أيضا في مصيدة العدو/ الصديق/ الضحية/ الجلاد...الخ. 

لا أحد ينجو من الوحش، الخوف، الألم، حين يقع تحت رحمته حتى لو (نجا) جسديا منه، فسيظل عالقا فيه الكثير من ملامح وحشه وجلاده، وهو يعيد إنتاجه كل مرة في شكل مواقف تتسم بالشراسة والكلبية والسعار ولغة الافتراس حتى لو كان ذلك مغلفا بشعارات ملونة، حتى لو عاشت هذه الضحية في مكان بعيد لا سلطة للوحش القديم فيه.

إما إذا تمكن احد هؤلاء من حرفة الكتابة فسيعيد كتابة كل شروط جلاده وسجانه ووحشه الغائب على شكل ( مقالات) هي أوامر عسكرية أو أوامر مركز بوليس أو بيانات زجرية تتسم بأقصى حالة صبينة وغوغأة رغم غلاف الرصانة مثل( أسكتوا هؤلاء عن الكلام!) أو ( اخرسوا جماعة السراب والريح لأنهم من العدو الطبقي!) أو( أوقفوا هذه الظاهرة الشريرة!).

أي أن هذه الظاهرة الشريرة وذلك الخصم وذاك الكلام لا يمكن أن يعالج أو يحل إلا بالإسكات والإخراس والرصاص أيضا.

على محطات اسكندنافية أرى مرات عديدة حوارات بين رهبان وشرطة وزعماء أحزاب ومفكرين وعاهرات ومجرمين ومربين وناشرين  لمعالجة ظاهرة ما غير مرغوب فيها.

وليس الحوار مفيدا فحسب، بل الطريقة الراقية الآدمية في الحوار حيث لا يخطر ببال أحدهم في أعلى درجات الخرف والشطح والتسلطن أن يطالب بإسكات الآخرين أو اقتلاع أصواتهم، وهذه الظاهرة مشرقية بامتياز.

صحيح أنه لا أحد( يدخل نفق الفحم ويخرج بقميص ناصع البياض) وصحيح أيضا أن العيش تحت القمع فترات طويلة يترك تلك الرائحة الكريهة الزاجرة الآمرة الغبية، لكن كثيرين دخلوا، بالمقابل، عاشروا الوحش، وعاشوا، منذ الطفولة مشردين، يتامى، لكنهم خرجوا يحملون رائحة خبز التنور وهي تفوح بعطر شهي، ويحملون رائحة فجر مبلل بالندى، ويحملون رائحة مساء دافئ معطر برائحة موقد عائلي مشع بالبهجة. 
  
ليس السجن قضبانا بل ذهنية
ونحن قد نخرج من سجون الأسمنت
كي نعيش، على البحر، وفي الهواء الطلق،
سجناء إلى الأبد
داخل جلودنا
ورائحتنا تخيف الوحش نفسه!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل


.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا




.. سر تطور سلمى أبو ضيف في التمثيل?? #معكم_منى_الشاذلي